
محمد جواد الميالي
نتذكر جيداً كيف كانت نساءنا تطحن القمح، بآلة من الحجر تسمى "الرحى" تطحن كل شيء داخلها دون تمييز، فالأقطاب خاضعة لكل الأيادي التي تعمل عليها.
عراقنا اليوم يعاني من طحن الرحى، أحدهما أشد من الآخر عليه، يقسوا على أبناء شعبنا دون أن يفرق بين فقير وبائس، أولهما خارجي والثاني داخلي..
الأقطاب الخارجية أقواها خراباً الأمريكية، دامت مئة عام من أستنزاف طاقة العراق، منها حروب بالإنابة، كالثمان سنوات في الحرب الإيرانية التي لم نعرف لماذا أدخلنا بها عميلهم صدام، كذلك دمار البنى التحتية عندما أغارت الطائرات على أراضينا، لتقضي على أنتفاضة الواحد والتسعين، إضافة إلى الحصار الذي مات فيه نصف مليون طفل عراقي، وأستحواذهم على كل المعادن والغاز والنفط بعد أحتلال ٢٠٠٣..
القطب الآخر الإيراني، الذي وجد ضالته في العراق بعد ما أنهكته العقوبات الإقتصادية الأمريكية، فجعل وطننا ساحة لمختلف أصناف بضاعته، مما جعله يكسب محبة الوسط والجنوب، بعد ما سانده في مواجة الإرهاب الداعشي، ومده بكل أنواع الأسلحة، عندما تنصلت واشنطن عن تسليح العراق، هذا ما جعل الماكينة الإعلامية تسلط الضوء على أحزاب السلطة الشيعية، وتربطها عقائدياً مع إيران، لتنسب كل الخراب على أنه صنيعة طهران، متناسين أن السياسة تقاد بالتقاسم، بين الكرد السنة والشيعة، حيث أن التمثيل الوزاري للشيعة يمثل ٤٠%، بينما للسنة يمثل ٦٠%، لكن أنشغال بعض الشيعة بتجميع مغانم السلطة، جعلهم يتحملون عبئ الفشل لوحدهم، ويواجهون سيل التهم من الشعب المحتج، حتى أصبحت فكرة نمطية لدى الأغلبية، أن الفساد متمثل بالعمامة الشيعية فقط؟!
الأقطاب الداخلية تكونت بعد أحتجاجات تشرين، التي أكتسحت سوح مدن وقرى الوسط والجنوب، ثم بدأنا ننقسم داخل صندوق واحد إلى طرفان، أحدنا "ذيل" وآخر "جوكر" عبارتان شاهدناهما يتزاوجان بوتيرة متسارعه، وينجبان مصطلحات مماثلة بين منصات التواصل الإجتماعي، متناسين ماهي مطالبنا التي خرجنا من أجلها، وأصبحنا ندور في دوامة الفوضى، والطرف الثالث مازال يستخدمنا حقلاً لتجاربهِ داخل الصندوق، أحياناً يشغلوننا بفرقة "مكافحة الدوام" ومجموعة أخرى تحرق الطرقات، ومن بعيد جداً شقوا صفنا بهتاف واحد.. "أنت ذيل" و "أنت جوكر".
للأسف بلاد الرافدين أمست تطحن برحى أربعة أقطاب، أدامت الجهل والحرق وقطعت الأرزاق والطرق، كل هذا ونحن نشاهد شباب بعمر الزهور، يتساقطون واحد تلو الآخر في سوح الأحتجاج، مقابلها تتعالى أصوات الإعلام لأثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، كل هذا حتى لا نصل إلى مبتغانا بتحقيق خطواتنا الأصالحية، فمن المستفيد من إدامة الفوضى وأشغال الناس بها؟
إختيار المكلف محمد توفيق علاوي خلق فتنه أخرى، وجعل ساحة الأحتجاج مكاناً لتصادم حزبان، أحدهما يريد الفوضى، لأنه يعلم أنه لا يستطيع الفوز بالإنتخابات المبكرة، لأن مدنيته مجرد خدعة، والآخر يريد المناصب وقد ظفر بها، لكن المتضرر الوحيد هو المتظاهر السلمي، لأننا مازلنا نخرج من فتنه لندخل بأخرى، لكي ننسى مطالبنا الحقه التي خرجنا من أجلها، وهكذا ضاع الوطن.. بين أقطاب الرحى.
عندما أبتعث محمد النبي إلى قومه، بدأ الدعوة بالصغرى بينه وبين أصحابه، لكي يستطيع أن يجمع له شملاً من الأنصار، ثم يعلنها بالدعوة الكبرى للملئ من قريش، حتى يستطيع مع أنصاره من مقارعة الكفار، لأنه لو أعلنها مباشرة لستطاعوا التخلص منه، لأن الكثرة تغلب الشجاعة..
أهم ما ميز الإسلام المحمدي هو القرآن.. هذا الكتاب العجيب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا حواها، فآياته نزلت منفردة، وبعضها نزل حسب المواقف المجتمعية والسياسية في ذلك الوقت.
الآيات القرآنية كانت هي الموجهة للمجتمع آنذاك، وكان على المسلمين إتباعها، وأغلبها في ذلك الوقت تسببت بجدل واسع بين المسلمين.
مثلاً آيات تحريم الخمر والميسر، بعضهم كان يقول نترك الخمر فقط عند الصلاة، ونعود للشرب بعدها، فالقرآن قال "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" إذا الحرمة فقط أثناء العبادة! على هذه الشاكلة، كانت كل الآيات تقابلها العديد من التصادمات، ويصل بالبعض إلا عدم الإتباع بالباطن والوقوف جنباً عن تطبيقها، لكن ما أن تصيبهم مصيبة، حتى يتهافتوا على نبيهم لينقذهم؟!
أحتجاجات تشرين التي أنطلقت في مدن شيعة العراق، وعلى مدى أربعة أشهر، كان التصعيد فيها يحدث يومي الأربعاء والخميس، لنجد الأصوات تتعالى على دار علي في النجف، ويبدأون بمطالبة السيستاني بالحل! بينما المرجعية قد رسمت خارطة الطريق الصحيحة وذكرتها بكل الخطب، لكن الكل بعد الخطبة يتبع هوى نفسه، ويترك كلام الحق ليتماشى مع الباطل؟!
التصعيد الذي يحدث كما آخرها في النجف، وسقوط عدد من الشبان فيها، كان كفيلاً بتأجيج عقول السذج، الذين أول ما تصيبهم مصيبة، يستغلون أقلامهم على مواقع التواصل، ليشتموا السيستاني بأنه لا فائدة منه؟!
هل يذكركم تذمر الجمهور من المرجعية والكفران بها بشيء..؟ نعم أنهم مسلمي قريش نفسهم، الذي ذكرهم الرحمن بقرآنه "الأعراب أشد كفراً ونفاقا" الذين كانوا يشتمون محمد ويكفرون بربه، لأنه أنجاهم من العبودية، وبأن نصحه وآيات كتابه لم تجلب لهم سوى الدمار، نفسهم اليوم يشكلون ذلك على السيستاني! ألم يقل ألتزموا بالسلمية، ألم يقل ميزوا صفوفكم من المندسين؟ لن نتحدث عن فضائل صاحب بيت الإيجار.. لكن إنكار الفضل والسب كان بالأمس مع محمد (عليه واله وصحبه السلام) واليوم مع السيستاني المنقذ لهم من داعش.
ما يحدث اليوم هو نتيجة طبيعية، لما أقترفته أرواحنا وأتبعته أهوائنا، لأننا نستمع دون أن نطبق، نردد دون أن نفهم، نعرف الحق ونحيد عنه، فالخمر الذي فرق المسلمين أيام النبي، مازال يستنشق الهواء في أدمغتنا، مازال الكفر.. خمر الشعوب.
الإرهاب مصطلح حديث ظهر في الساحة اللغوية، قد لا يتجاوز عمره السبعين عام، لكن أساليبه منذ عهد سيطرة الكنيسة الكاثوليكية بأوروبا، وقتلها معارضيها فكرياً وسياسياً، وتمثيلها بالجثث تحت مسمى حروب العقيدة، التي أستخدمها البابوات بالإيديولوجية الدينية، ليبرروا قتلهم للأطفال وأغتصابهم للنساء بضمير حي.. حسب أعتقادهم!
سكان منطقة الجزيرة العربية، وضعهم مختلف جداً، لأنهم جميعاً تحت سقف دين واحد منذ ١٤٠٠ سنة، وتتجذر فيه طائفتان بالإسلام، لكن بدأت المشكلة العقائدية، التي تولدت بينهما، أولهما من أتبع الطائفة السنية، أسسها الخليفة الثاني عمر، وبين المذهب الشيعي، وهم أتباع الأمام علي (عليه وأله السلام) فأصبح الحقد دفينا بين بعض اتباعهما، وأسس للعداء ضد الآخر، وأتبع أساليب الإرهاب ضمن الأيديولوجية الدينية، لتحريك الجماهير ضد غريمه.. فمن هو؟
العراق يعتبر مركز التشيع في العالم فضلاً عن الشرق الأوسط، لأنه مركز كل المرجعيات، التي تعتبر الأب الروحي والمصدر الأساس لمذهب أتباع علي..
رغم أن شعبنا متنوع عقائدياً وأقلياً إلا أن الشيعة هم الأكثرية، لكن لم تأتهم فرصة منذ تأسيس الجمهورية إلى سقوط الدكتاتور، ليكون لهم موضع قدم في السلطة.
جيراننا العرب لم يتحركوا ضد الحكم عندما كان تحت الراية البريطانية والخيمة الأمريكية، لكن بدأت بوادر العداء تتضح، عندما أصبح نظام الحكم فيه ديمقراطيا، وسمح بأن تكون مقاليد السلطة شراكة بين الشيعة والسنة، والديمقراطية تعطي إدارة الدولة للأغلبية فيها، عندها بدأ تصدير الإرهاب "الإسلامي" إلينا بدأ من تنظيم القاعدة إلى داعش، كل هذا بدعم أموال الخليج وبخطب مشايخهم، التي بدأت بإباحة الزنا، تحت عنوان "جهاد النكاح" فعانينا الويلات ليومنا هذا.
قبل تشكيل أول حكومة في ٢٠٠٥، بدأت نزعة الطائفية، فأباحت الدم العراقي.. يبقى التساؤل من بدأها السنة، الشيعة أم صدرت إلينا من الخليج العربي؟
ستة سنوات نسير في شوارعنا، نتلفت من حولنا خوفاً من أن تنفجر سيارة مفخخة أو أنتحاري خليجي، ويوماً بعد يوم نفقد المئات من أحبائنا.. بين الكرادة في بغداد وشارع الرسول في النجف، الغريب أن هذه الإنفجارات لا تفرق بين طفل أو كبير، بين إمرأة أم شاب، الأهم أنها تحدث في مناطق الشيعة..
عام ٢٠١٤ البائس، توغل فيه داعش عن طريق الموصل والأنبار، وبدأت هتافات ساحاتها "قادمون يا بغداد".. عندها راح أبنائنا للدفاع عن وطنهم من المد متعدد الجنسيات، فكان القائد سعودي، المنفذ شيشاني، والمستضيف عقائدياً عراقي! كل هذا بالمال الإماراتي والتخطيط الأمريكي..
بعد مد وجزر أستمر ٣ سنوات، أستطعنا أن نتخلص من التنظيم الإرهابي، بسواعد أبناء الجنوب، في ظل أننا كنا كالمشهد السينمائي بالنسبة "للعرب" أشقائنا، لكن شاء الرحمن أن ينتصر الحق بفتوى الحق.
كل هذا الإرهاب كان ضحيته عراقي، والخراب لم يفرق بين الطائفتين، لكنه أوغل كثيراً في أبناء الجنوب، العجيب أنه عندما توحدت الكلمة لإخراج القوات الأمريكية, بدأ قادة السنة بالنواح رعباً من بطش الشيعة!
هل أنقذتهم قوات المحتل من إرهاب داعش أم شيعة علي من دحروه؟ من حرر أرضهم، أبناء العم سام أم أبناء الفتوى؟ هل يقابل الإحسان بالإساءة؟ هل الإرهاب شيعي؟!
كل التخريب الحاصل اليوم في تظاهراتنا، وحرفها عن السلمية، هو رداً على قرار الشعب بإخراج جنود واشنطن من العراق، وتخوف قادة الغربية ماهو إلا كذبة، لأن الإرهاب ليس شيعيا.
الصين بلد التطور السريع، حيث رغم أنشغال العالم بالثورات والتدخلات العسكرية و الإرهاب المصطنع، إلا أنها خلال عشرة سنوات أستطاعت أن تقفز بسهم النمو الإقتصادي، بمقدار 5.6 في عام 2018.. كذلك أكتساح شركاتها لمختلف أسواق البلدان، خاصة في الشرق الأوسط، فلا يخلو سوق عربي من البضاعة الصينية.
أمريكا في آخر عشرين سنة، ركزت على عملياتها العسكرية في المنطقة العربية، لتحد من النفوذ الروسي الإيراني وحلفائهما من التوسع، كل هذا كان مردوده سلباً على الإقتصاد الأمريكي، حيث تراجع إلى 1.6 في عام 2018، كذلك أرتفاع نسبة البطالة لديهم، مما جعل واشنطن تغير سياستها مع عملائها في الخليج العربي، إلى سياسة الدفع مقابل الحماية!
تقاس الدول العظمى على مدى تطورها الإقتصادي، لذلك من يتربع على عرش الأقوى عالمياً هو من يكون مستقر أقتصاديا، لأن المال هو المتحكم بكل الأمور، ينشط دور البعض، ويحجمهم في الوسط العربي.. لذلك نجد أن الشرق الأوسط، يتجه نحو حضن التنين الصيني.
العرب في خضم مشاكل شعوبهم الثائرة، بين مؤيد لها وآخر معارض، لكن رغم ذلك علينا أن لا نغفل عما يحدث من إتفاقيات إقتصادية عملاقة، أهمها إبرام السعودية إتفاق صناعيا مع الجانب الصيني.
كذلك بغداد منذ ١٠ سنوات تحاول أن تجد سبيلها نحو الأعمار، بعد أن أصابها الخراب، جراء التواجد في مظلة الخيمة الأمريكية، لذلك حكومة بغداد، تطمح إلى أن تجد سبيلا لدى التنين الأحمر.
إتفاقية الصين التي أدرجت في الموازنة العامة، ستكون هي حجر أساس لبناء عراق جديد، لكن ما يستغرب الهجمة الإعلامية المنظمة لتسقيط الإتفاقية، والأغرب توقف هذه الحملة الألكترونية، بعد أن أبرمت بكين إتفاقية تجارية مع واشنطن..
الصين تعلم جيداً أن طريقها لأن تقود العالم، يجب أن ينطلق من الشرق الأوسط، وبالتحديد العراق.. لذلك قدمت تنازلات تجارية للجانب الأمريكي، لتتم إتفاقياتها في بلاد العرب، لكن ما لا شك فيه أن إتفاقها مع واشنطن سيكون حصان طروادة، الذي يجعل السوق الأمريكي لا يستغني عن بضاعة التنين الصيني، لأنها عالية الكفاءة قليلة التكلفة، وسوء الوضع الإقتصادي للمواطن الأمريكي يحتاج إلى ذلك..
الفلم الهوليودي "لعبة الليل" وفي أحد مشاهده تقول البطلة "يجب أن نعلم إبننا اللغة الصينية، لأنها ستقود العالم عما قريب" وهذا يدل على أن بلاد العم سام، تلفض آخر أنفاسها الإقتصادية، والصين لا تحتاج أكثر من عشرة سنوات، لتتربع على عرش الإقتصاد العالمي.
أكبر المنتصرين في هذه المعركة حينها هو العراق لأن.. بكين ستكون في بغداد.
كان موسم الربيع العربي، الذي أنطلق في عام ٢٠١١، بعد أن أحرق الشاب بوعزيزي جسده في تونس، وأشعل معه فتيل الثورات في المنطقة العربية، مرحلة مفصلية في تاريخ العرب..
أصبح الوضع فيما بعده مليئا بساحات ملتهبة جداً، ونتائجها كانت تختلف بين بلد وأخر، فتراوحت بين هروب الرؤساء كما حصل لبن علي في تونس، وبين "سحل" للقادة وقتلهم وكما حصل للقذافي، لكن هل إن ما جاء بعد هذه الثورة، كان يلبي طموح الأوطان؟
مصر التي أنتفضت في مجموعات التواصل الإجتماعي، لم تحقق سوى إستبدال العسكر بالعسكر.. ، فكان السيسي كأنما الوجه الآخر لمبارك، تشوبه أتهامات العمالة لإسرائيل من كل النواحي، أما باقي البلدان المحتجة، فلازالت تعوم في الفوضى..
لو بحثنا في مقارنات الوضع الإقتصادي، للشعوب قبل وبعد الثورات، سنجد أنها تتدهور كلما أشتعل فتيل الثورة، مثال ذلك سوريا ولبنان وتونس، التي تغرق في مشاكل نزول العملة وأرتفاع نسب البطالة، أما في العراق فالوضع متذبذب، بين أستقرار نسبي قبل تظاهرات ساحات المناطق السنية، التي تمخضت عن داعش، إلى تقشف بسبب العمليات العسكرية ضد التنظيم، وما أن أستقر الوضع، حتى دخلنا في معترك تظاهرات المناطق الشيعية.. فهل ستأتي بتقشف أقتصادي، أم ستفتح الباب على لجوء الشباب إلى بلدان المهجر؟.. فهما النتاج الوحيدة التي تصاحب الثورات في ربيعنا العربي.
رغم ما يحدث في خفقان الساحات المحتجة، نجد أن التعاطي السياسي معها كان دون المستوى، وأحياناً معدوم.. بسبب التوغل الخارجي في المنطقة، وتدخلاته في الشأن الوطني، كما في لبنان والعراق، حيث أن بلاد الرافدين تشهد تشتت وأنقسامات القادة السياسيين، متناسين الوضع الداخلي للمتظاهرين ومطالبهم، معتبرين أن ما يحدث هو مؤامرة، فما زال العقل النابض للسياسة العربية، يعتقد جداً بوجود هذه النظرية، منذ عهد تنصيب عبد الكريم قاسم، وإنهاء الملكية البريطانية، إلى كنف الجمهورية الأمريكية.
لا يمكن لأحد إنكار نظرية المؤامرة، والأيدي الخارجية التي تتلاعب في سريان الأوضاع في الشارع العربي عامة والعراقي خاصة، لكن الإحتجاجات أنطلقت بدوافع حقيقية، كالفقر والبطالة وسوء الخدمات.. وركبتها موجة السفارات لاحقا، لتجعل الوضع أكثر سوداوية، وتثير فتيل الفتنة، ليسود العنف على السلمية، ولم يعد يعرف أسفل التظاهر من أعلاه.. فهل يمكن أن يكون هذا الأمر صدفة لصالح التطرف الخارجي؟!
حركات الربيع العربي منذ قيامها لم تغير شيئا في المنطقة، والفجوة الإقتصادية والثقافية والسياسية بين الطبقة الحاكمة والشعب، هي دافع قيامها، أما العقل العربي فأصبح منقسما، بين أغلبية متفقة على أنها مؤامرة هدفها إدامة الخراب، وأخرى مسيرة بالعقل الجمعي، يدعمها التضخيم الإعلامي، ليبين أنها حقوق مسلوبة.
بعد كل ما سبق هل من حقنا ان نسأل وببساطة، هل أن الثورات.. حقيقة طبيعية أم صناعة؟
العراق بلد الحضارات.. هذه الكلمات كانت تدق أوتادها في آذان ووعي كل الطلبة، ودائماً ما كنا نفتخر أننا أبناء وادي الرافدين، لكن كيف أصبحنا بلد الحضارات، وما هي أسس، أن يكون بلدنا هو مركز التطور الأول في العالم؟
لا تبنى الحضارات بالقوة، بل على عكس ذلك، فأخر ما يحتاجة الإنسان هو القوة، لأن تراثنا من بابل وسومر وآشور، التي نتباها بها، قد بنيت بالعلم.. فهو الأساس الذي تنطلق منه كل أشكال الحياة..
أول حرف ظهر على وجه الكرة الأرضية، كان بمنطقة تسمى أوروك "الوركاء حاليا" قبل أكثر من اربعة الاف سنة قبل الميلاد.
كانت بدايات الحروف صورية عن طريق الرسم، ثم تطورت إلى اللغة المسمارية، على يد أجدادنا السومريين والآشوريين، منذ القدم كانوا يعلمون، أن أي تطور ممكن أن يحدث فارقا في وجودهم، لا يمكن أن يوجد بالقتل أو الحرق أو التخريب، وإنما بالعلم..
لذلك لو بحثنا في تاريخ تطور كل الحضارات الإنسانية، نجد أن نقطة التحول من البدائية إلى التمدن كانت العلم.
عمد القدامى إلى إيجاد أهم سبل العيش بأمان، والوصول للأمن والاستقرار، يجب ان يبدأ بالأنسان.. لذلك لم يعمدوا إلى بناء الأسوار او القلاع، وانما قاموا ببناء الإنسان..
بناء البشر يأتي أولوية قبل بناء كل شيء، لأن الإنسان أساس أزدهار الأرض وأساس خرابها، لذلك كانت أهم خطواتهم هي التعليم، لأنه سيصقل القيم التي بها سيبنون حضاراتهم، وينهون حروبهم، ويجدون بها أستقرارهم وأمانهم، الذي يبحثون عنه.
إذا التعليم هو بداية نور السلام، وإنهاء حروب القتل والمعارك لا يتم إلا بالعلم، فالعقول المتحجرة وباء يفتك بكل المجتمعات والحضارات، والعلم هو السبيل الوحيد، الذي يستطيع أن ينبت فكرة، داخل الأدمغة المتصحرة..
هذا ما يعاني منه العراق اليوم، حيث نجد أن تراكمات البعث بقيادة صدام والحروب العسكرية، قد دمرت التعليم بكل الأصعدة، لكي تبقى فئة محددة من الشعب، سلاح فتاك يستخدم لتهديم المجتمع العراقي، عن طريق إستغلال جهل الشباب بعدم القراءة والمطالعة، والبحث عن الحقيقة، حتى أصبح شبابنا أسير بيد مواقع التواصل الإجتماعي، وقنوات تحاول النيل من الوطن.
للأسف تغيرت قيمنا اليوم، فأصبحنا نترك الفساد ونحارب التعليم، بدل أن نبجل المعلم أصبحنا نهينهُ بالعلن وبتفاخر.. حتى أختفى الوعي بين الشباب، وأنهارت صورة المعلم والقدوة؟!
من سيربي النشئ على القيم، بعد أن أصبحت فئة من المجتمع تبيح الإعتداء على الطلبة، وتحرق مدارس العلم؟ ومن يعارضهم ينكل به ويضرب.. فأين الحرية التي طالما تصدعت رؤسنا بها؟ نحن نتعايش وسط تناقضات فكرية وتقييد للحرية، لن نتخلص منها حتى يكون التغيير منا وإلينا.
كلنا نعلم جيداً أن المدارس للتعليم، والساحات للتظاهر.. وكلاهما يساندان بعضهما.