
محمد جواد الميالي
دول العالم العظمى تعتمد في سياساتها على مبدأ المصالح، لذلك نجدها محترفة في إتخاذ القرارات في الظروف الإنفعالية الآنية، ولا تنجر وراء أهواء شعوبها.
أمريكا دائماً ما يحدث بها العكس، حيث عند أنتهاء كل فترة ولاية لأحد رؤسائها، يعمل بجهد عالي التهور.. ليحصد الولاية الثانية، فيصبح هو المحرك للكونغرس الأمريكي، بعد أن كان الأخير هو المتحكم بالقرارات.
أبرز مثال لهذه القرارات هو ما قام به ترامب، عندما أغتال القائدين المهندس وسليماني، فأدخل واشنطن في عنق زجاجة، وأضاع كل نقاط قوته، ووحد الشعبين العراقي والأيراني.. ضد الوجود الأمريكي في المنطقة،
إيران وكما تعودنا مناه أنها صاحبة النفس الطويل في السياسة، لا تنجر خلف أنفعالاتها، قراراتها دائما ما تؤخذ ضمن حسابات وخطط وأفعال محسوبة، تؤدي الغرض وتوصل الرسائل، تحقق الأهداف ضمن نطاق محدد، وبكلف معقولة.
الرد الإيراني مدروس بعناية فائقة، حيث أن قصف القاعدة الأمريكية، أثبت للعالم أن أمريكا اليوم لم تعد القوة الأعظم.. كما يصفها أبناء العم سام.. والدليل الآتي:
البنتاغون يصرح "سفينة حربية روسية، أقتربت بشكل عدائي من مدمرة أمريكية في بحر العرب" هذه المضايقات، كانت تفعلها السفن الأمريكية، مع سفن الأتحاد السوفيتي سابقاً أيام الحرب الباردة..
إذاً ما يحدث اليوم في الأزمة الدولية الراهنة، هو أكبر منا ومن المنطقة، لكن يجب أن نعلم أنه هناك فرق بين التصريحات الأعلامية، من تهديدات والمساجلات بين أطراف الأزمة، وبين أفعالهم على أرض الواقع.
ما يحدث هو أن الأعلام أداة لشن الحروب النفسية، وتحريك أجنداتهم في الشعوب الأخرى، ومجارات أنفعالات مواطنيهم، أما الواقع فيسير حسب مصالح الدول الإقتصادية وكالتالي..
واشنطن تراقب النمو الإقتصادي للجانب الصيني، الذي يعتبر التهديد الحقيقي للدولار الأمريكي، لذلك لا يمكنها أن تدخل حرب لا يربح بها سوى اليوان الصيني، مهما كان رد طهران، وستعمل على مفاوضات عديدة لتهدئة الوضع مع أيران..
فيلق القدس من جانبه رد الصفعة إلى ترامب، وروجها إعلامياً لجعلها إنتصار يهدئ الشارع الثائر لسليماني، ولكنها في حقيقة الأمر تتبع خطى واضحة، للعمل على كسب العديد من المصالح والتنازلات النووية لصالحها، جراء إغتيال رئيس فيلق القدس..
أيران أنتصرت استراتيجيا.. وأثبتت للعالم أن أمريكا اليوم ليست كسابقتها، ولذلك علينا كعراقيين، أن نستثمر الصراع لنخرج من كنف الإهانة الأمريكية، التي لم تجلب لنا سوى الدمار، بسياسة القطب الواحد.
الصين هي من يقود العالم قريباً بلا منافس، ومن المنطقي أن نذهب حيث مصلحة العراق، مع الأقوى إقتصادياً.. فالإقتصاد هو محور الصراع.
عندما تولى عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء، فهو أستلم دولة شبه منهارة منذ أكثر من خمسين عاما، ورغم ذلك فإن إدارته للحكومة كانت مختلفة، لأنه يمتلك عقلية إقتصادية بعيدة المدى، وبوادر نجاحها لا يمكن أن تتضح إلا بعد سنوات عدة في الأقل.
أكثر ما عمل عليه رئيس الوزراء هو بناء دولة حقيقية بعيدة عن التدخلات الخارجية.. لكن كيف سقط عادل، ولماذا أنهارت مخططات بناء الدولة العراقية؟
الإقتصاد هو الحجر الأساس في بناء البلدان، وما حدث في عام ١٩٦٨ في حكومة عبد الرحمن عارف، شبيه بما حدث مع إستقالة عبد المهدي، والأسباب هي:
منح عارف شركة إيرب الفرنسية أمتيازاً نفطياً كبيراً في جنوب العراق، معطوفاً على إلغاء إمتياز الكبريت لشركة أمريكية في شمال العراق، وعلى إتفاقيات نفطية مع كل من الإتحاد السوفيتي وبولندا، كل هذا بالشراكة مع شركة النفط الوطنية، كذلك شراء العشرات من طائرات الميراج الفرنسية..
كل هذا ساهم بصورة كبيرة في إنعاش الإقتصاد العراقي، الذي بدوره سيخرج العراق من عنق زجاجة التدخل الخارجي في الأمور الداخلية، لكن ما أن تم توقيع هذه الإتفاقيات، حتى تفاجئ الكل بإسقاط حكومة عبد الرحمن عارف.
فما أشبه الأمس باليوم، حيث أن أسباب إستقالة عبد المهدي هي:
توقيع إتفاقية الصين بقيمة ٥٠٠ مليار دولار، يتم تسديدها على شكل ١٠٠ ألف برميل نفط يوميا قابلة للزيادة، لمدة ١٠ سنوات قابلة للتمديد، تتكفل خلالها الشركات الصينيك بإعادة إعمار العراق بمختلف النواحي، تفاصيلها كثيرة لا يسعها مقال واحد، كل هذا بالإضافة إلى الإتفاقية مع شركة سيمنز الألمانية.
لا يخفى علينا التدخل الأمريكي في العراق، الذي فرض على عبد المهدي الغاء هذه الاتفاقات، كذلك تحجيم الحشد الشعبي، فكان رده عليهم حينها بجعله ضمن حرس الشرف، الذي يستقبل الرؤساء والزعماء.. وهذا كان ردا دبلوماسياً من عبد المهدي، فجعل العم سام يسارع لإشعال الفتيل الشعبي والسياسي لإقالة رئيس الوزراء؟!
الذنب الوحيد الذي أقترفه عادل عبد المهدي، هو الشروع بأتفاقية أعمار العراق، الذي سيؤدي إلى سحب البساط الأقتصادي من الإمارات، وينهي التدخل الخارجي للعم سام بالعراق، مما جعل الأخيرتان تعملان على الدفع بالتراكمات السلبية في العملية السياسية، وتأجيج الشارع لإقالته وأعمام الفوضى..
الدولة الحقيقية التي حلمنا بها كانت قريب جداً من التحقق، لكن البعض فرح جداً ويعمل بقوة لإستمرار دولة الورق، التي نتعايش فيها اليوم..والتي يريدونها لنا.
الدين لايعيش على الوجود الإنساني، فهو موجود منذ الأزل، ولا يمكن لأحد تبديله، ومتبني الإلحاد كلهم لم يثبتوا عدم وجوده، وأغلبهم في آخر لحظات حياتهم، أقروا أن الدين ينبض في عقلنا الباطن، فضلاً عن المؤمنين به.
الصراع منذ الأزل بين الديانات لم ينتهي، والنزاع الأكبر أستمر بين اليهود ومناصريها من النصارى، وبين الإسلام الشيعي..
الطرف الأول كان متأكدا ومتخوفا من عقيدة الأثني عشرية، الذي يبشرون بخروج منقذ آخر الزمان، حيث سيثبت دين محمد (عليه واله وصحبه أفضل الصلاة والسلام) ويحكم الأرض، ليملأها قسطاً وعدلا كما ملأت ظلماً وجورا.. هذا ما جعل عقيدة الصهاينة، تحارب أنصار المنتظر في المكان الذي سيخرج منه.
العراق هو البلد المنشود لهذا العبد الصالح، لذلك تجد أن مركز ومصدر التشيع هي بلاد الرافدين، ومكان كل حروب ومعارك الفتن والطائفية هو العراق.. لأنها مركز الدولة القادمة، والباقون فيها من الشيعة هم أتباعه، لذلك تعمل يد إسرائيل (أمريكا) أن تسوق أفكارها بأنها تحارب الجارة إيران، وأن الحشد والشيعة ليس المستهدفين، وإنما ذريعتها أنهم أتباع لبلاد فارس..
دعموا داعش بالسلاح والأموال، ليقتلوا حشدنا العراقي، وبعد أن تكبدوا الخسائر الفادحة، بفتوى المرجعية وسواعد حشدنا المقدس، بدأوا بقصف مقراتنا علناً، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، قاموا بتمويل أجنداتهم في التظاهرات، ليعملوا على تسقيط الحشد وقادته، وعندما نجحوا بزرع هذه الفتنة في قلوب أتباعهم الزنادقة.. عندها أنتهكوا سيادتنا، وأغتالوا قادتنا، وأوقدوا ناراً مشتعلة في قلوبنا على فراقهم..
الحرب التي بدأتها أمريكا قد بانت معالمها، وأصبحت واضحة كسواد الليل، إنها حرب العقيدة، معركة ضد الشيعة، لإنهاء آخر وجود لأتباع المنقذ، لأن صراعهم مع إيران هو مجرد كذبة، وأشاعه لا تنطلي سوى على صغار العقول، من أنحرفت بوصلتهم.. عليهم أن يعيدوا ترتيب الأوراق، ليفهموا جيداً أننا نحن هدف الصراع.
كل ما يطلق على قنوات البعث، ومواقع التواصل الإجتماعي، من أنها معركة بين العم سام والحجي، هي أكذوبة، لأنه لو كان جارتنا النمسا، أو حتى كنا جزيرة نائية لا جارة لنا، لكانت قوى الشر، تتخذ أعذاراً أخرى لتقتل آخر شيعي، وتنهي آخر أنفاس المنتظرين.. لكن مالا يعلموه، أن أتباع علي عليه السلام، يفضلون الموت جهاداً، بل يتسابقون للشهادة، وهذا ما لا تستطيع أمريكا أن تجد حل لتقضي عليه.
شهدائنا يعلمون جيداً، أن حياةٌ ملؤها الجهاد والشجاعة والصبر، لا تليقُ بها إلا هكذا خاتمة، فالأحرار يموتون مرة ويولدون آلاف المرات.. طريقهم يصنع جيلاً لا يحمل سوى جينات الشجاعة وعبادة النور.. فسلامٌ دائم يرتدي مصابيح الأنوار في فضاءات الخلود، إلى كل الشهداء الذي نالوا الشهادة، مطالبين بالحرية، صارخين هيهات منا الذلة، سلامٌ إلى روحي الشهيدين:المهندس وسليماني.. وإن عادوا عدنا.
التظاهرات ظاهرة صحية تعبر عن مدى نضوج العملية الديمقراطية والجمهور، إلا في العراق فكثيرون يختلفون عليها ويصفونها بالعمالة.. وأن هناك أيادي تحركها و أن نفوذ سلطوي داخلها.
لو أردنا أن نبين تسيسها من عدمه علينا أن نتعمق في نشأتها، و أجتياحها لمدن الوسط والجنوب، ومتى تكون عنفية، و أين تستقر سلميتها عند كل قرار سياسي..
بدأت بعد أنتهاء حقبة داعش الأجرامي، وقبل أن تجف أروقة الشارع العراقي، من دموع الأمهات الثكالى، حتى دخلنا معترك التظاهرات، التي بدأت تهتف بشعار واحد "نريد وطن"
هذا الشعار كلفنا دماء غالية، سالت بعيداً جداً عن السلمية.. وقبل كل خطبة للجمعة، تحدث فتنه تأخذ مأخذها بين صفوف السلميين، وتترك الأصوات الناشزة لتغرد.. داخل السرب، و تجعل الشارع العراقي ينقسم فيما بينه، ويصبح أحدنا "ذيلا" والآخر "عميلا" حتى أمسى شعبنا دكتاتوري، لا يتقبل الرأي الآخر، ولا يسمح بأن يختلف معه أحد بالحوار..
كل هذه المصطلحات و أدلجة العقول، بدأت في مواقع التواصل الإجتماعي، وأستقرت في العقول الهشة وما أكثرها.
السلمية التي تصدح بها حناجر المحتجين، وتطالب بها المرجعية، لم تصمت للحظة، ولكن هستيريا العقل الجمعي دائماً ما تطغى، فكلما علا صوت الفتنة، كلما زاد سيل الدماء، لكنها خبيثة ماكرة، دائما ما تختار ما يفرق المجتمع، فبدأت بضرب القبور في النجف، و جعلت الناس صنفين.. أحدهم مؤيد والأغلبية رافضة، ولكن يبقى السؤال الأهم، كيف أنحرفت التظاهرات، لتطالب بهدم قبر يعتبر رمزاً للبعض؟ وكم من صفقة مررت داخل البرلمان، والناس مشغولون بفتنة النجف؟
الوثبة كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، الطفل الذبيح الذي تم سحله وتعليقه على عمود في منتصف الساحة، وسط الحشود المهللة والفرحة، و الإعلام الذي بدأ يسوق لهذه الجريمة البشعة، زرع التفرقة بين الناس تجاه المتظاهرين.
النار وما أدراك ما تأثيرها في بلادي، خرجت من إطارات قطع الطرق، لتنتقل لسوق الشورجة في بغداد، وتقطع طريق الموانئ في البصرة، وتنهي آخر آمال تجار شارع الرشيد في الربح، فأما تدفع الأتاوة، أو يحرق محل عملك!
ضرب الرموز، وظاهرة التمثيل بالجثث، وهدم التعليم، وكذلك قطع الأرزاق، بالإضافة إلى الأغتيالات التي لا تطال سوى السلميين، كلها لم تؤثر في قرارات رؤساء الكتل، حيث كلما أختلفوا في مابينهم، كلما تصاعدت الإحتجاجات.. وسيل الدماء يبدأ بالتدفق، كأن سوح التظاهر لعبة يديرها الأعلام..
كل هذا يبين أن نسبة المتظاهرين هم ثلة قليلة جداً، والأغلبية هم تبعية سياسية تثير التصعيد كلما أختلف قادتهم داخل حلبة الصراع السياسي والخاسر الوحيد هو الشعب.
عندما تحاول أن تجد مقارنة بين شعوب متطورة وأخرى نامية، تجد أن الفرق الوحيد بينهما، هو نسبة الوعي.. فالإدراك الكلي لجزيئات الأمور، هو الحد الفاصل بين أن تكون أو لا تكون..
العراق خاض التجربة الديمقراطية، بصبغة مراهقة جداً في أول إنتخابات عام ٢٠٠٦، وكان قرار الأختيار ضمن هامش العقول، أقرب إلى الطائفي من كونه قرارا مصيريا لتحديد مسار البلد، من هاوية الدكتاتورية الفاشلة إلى ديمقراطية ناجحة، وكل التجارب تكون بداياتها غير صحيحة تماما، والتغير دائماً يكون في الثانية منها.
نظم السياسيون أوراقهم على مدى أربعة سنوات، ليخوضوا إنتخابات ٢٠١٠ كلٌ على حدة، وفق جمهورهم، فالعملية الديمقراطية تكفل للجميع تكوين أحزاب وتيارات، ليخوضوا بها غمار العمل السياسي، وكان جمهور الأحزاب يختلف من جهة إلى أخرى، بين الولائي الجاهل إلى المثقف المنفتح، رغم قلة الأخير..
كانت إنتخابات ٢٠١٠ حسب التوجه والأنتماء السياسي حصراً، فأنتجت بودقة مغلقة من سياسي الصدفة، فأصحبت دهاليز السياسة حكراً عليهم، وأمسى شعبنا مؤدلج التوجه، ويسير خلف أبواق الإعلام الممول، وينفذ حسب أوامر تصدر في مجموعات الواتساب أو التلكرام، كل حسب تنظيم تياره أو حزبه!
دخلنا إنتخابات ٢٠١٤ تحت سطوة الأحزاب الحاكمة، فكانت الأبواق تنادي بإنتخاب نفس الوجوه، وأصوات ضعيفة جداً، تنادي بالتغيير بسبب فشلهم في إدارة الدولة ووارداتها.
الأغلبية الصامتة مازالت لم تنطق بحرف، وانزوت في زاوية مظلمة، ولم تحرك أصبعاً في الأنتخاب، فكانت النتيجة للمرة الثالثة لصالح الأحزاب.. فأنتجت صراعا كبير بين رؤس الحكومة، مما أدخل العراق في معركة داعش الغبراء، التي أخذت مأخذها من دماء أبناء الوطن، وسببت نكسة كبيرة في الإقتصاد العراقي، مازلنا نعاني منها لحين اللحظة، لكن الغريب ماحدث في إنتخابات ٢٠١٨، التي زادت من نفوذ الأحزاب بسبب قلة مشاركة الشعب في عملية الأصابع البنفسجية.
تظاهرات ٢٠١٨ التي شاركت بها الطبقة الكادحة والمتضرر، وتوغلت بها جماهير الأحزاب لتشويهها، تنقلت بين المد والجزر بين العنف والسلمية، فكان الحد الفاصل فيها للتغير هم المتظاهرين والمرجعية، التي دائماً ما تحدد المسار الصحيح للتظاهر كلما حرفها المندسين..
الأحتجاجات أتت بإيجابيات عديد، منها الغاء إمتيازات المسوؤلين، وكذلك عدم ترشيح مزدوجي الجنسية، ولكن أهم إنجاز كان قانون الأنتخاب، الذي تشوبه العديد من الأخطاء، لكن يمكن أن يعتبر نجاح لإرادة الشعب، الذي صمد لمدة شهرين في سوح الأحتجاج.
الكرة الآن لا في ملعب الأحزاب فحسب، ولكنها أيضاً ليست في أحضان الشعب، فقانون الأنتخاب الجديد يعتمد بالصورة الأساس على نسبة الوعي لدى الشعب، في أن يكون أو لا يكون..
إذاً لن يتغير الحال إلا بقدر يسير، إذا ما تنتهي كل من الأنتخاب العاطفي، والسلاح المنفلت، ونظام المحاصصة.. التي سببها أننا نتعايش مع أزمة وعي، فالعملية هنا طردية، كلما زادت نسبة الوعي لدى الفرد، كلما أزداد نسبة صعود الأفضل والنزيه.
السلام السياسي هو أساس بناء المجتمعات المتطورة، العراق للأسف لم يعرف معنى السلام السياسي ولا حتى المجتمعي، منذ أنتهاء حقبة الإحتلال البريطاني.
الملكية إنتهت بإنقلاب عسكري تبعه إغتيال لعبد الكريم قاسم، لم ننتظر طويلاً حتى جاء بعدهم الدكتاتور صدام.. هذا التنقل يؤثر على النسيج الفكري للمجتمع العراقي، الذي عاش فراغاً معرفياً من حقبة الملك فيصل لحين تولي صدام السلطة، عندها أستقر على مبدأ الدكتاتورية الطاغية، التي أخذت أكلها في عقول الشعب.
ثلاثون عاماً كافية لتجعل أنظمة البعث تجد طريقها سالكا في عقول الأغلبية، ومن يتوقع أن سقوط الطاغية قد قضى على بودقة البعث، فهو واهم، لأن البعث مازال ينبض في عقول البعض.
التجربة الديمقراطية بعد 2003 هي تجربة عرجاء، لأن نظام القتل والأستبداد الذي زرعه البعث مازال حياً في العراق، لذلك واجهنا طائفية حركتها أجندات خارجية، لكن الحقيقة أن المنفذين هم أبناء الوطن.. شبه الإستقرار الذي تحقق بعد حكومة 2010، قد فرضه القانون رغم ضعفه، لكنه حقق بعض من السلام المجتمعي.
كذلك كان دور المرجعية كبير في هذا السلام، ولا ننسى أزدهار التعليم في العراق، وكثرة الجامعات فيها، كل هذا كان قريب من أن يقضي على صبغة العنف في أدمغة البعض، لكن مخططات الحروب كانت تسير من تحت أقدام الساسة..
الحرب ضد داعش من جهة، وتفاقم الفساد في دهاليز المؤسسات الحكومية من جهة أخرى، قد سبب إنهيار الإقتصاد العراقي، وعندما ينهار الإقتصاد تنهار معه الأخلاق.. وهذا هو ما أستغلته الأيادي الخارجية، التي بدأت بتسقيط مرتكزات الدولة، فبدأت بنعت قوى الحشد بالذيول، ومن يتبع المرجعية فهو رجعي! عندها أصبح شعارنا نعم لتجهيل الأجيال بغلق المؤسسات التعليمية..
كل هذا جعلنا ندخل تحت غطاء العقل الجمعي، والذي يدخل فيه يصبح مسير لا مخير، حيث الكل يذوب في اللاوعي العنصري، ويصبح لهذا الجمع وعياً عنفياً تحركه خيوط خارج القطيع، وأمثلتها ماحدث في الناصرية، من تجمهر العديد من العراقيين! لقتل والتمثيل بجثة أحد قيادي الحشد، مع هتافات الفرح وأهازيج الإنتصار؟!
كذلك ماحدث في ساحة الوثبة، عندما سحلوا جثة الطفل ذو السبعة عشر ربيعاً، بعد أن أوغلوا بصدره الطعنات، ثم علقوه على عمود الإنارة، لكن ما يستغرب هو موقف الجمهور الذي كان يشاهد ويصور ما يحدث لهذا الذبيح!!
كل هذا القتل تم على أيدي عراقية، ولا يمكن القول أن هناك مندسين، فالتجمهر حول المقتول كان بالمئات! فهل كلهم مندسين؟ بالطبع لا.. لأن الذي يحدث هو بفعل هستيريا الجماهير، التي تبين حقيقة القطيع داخل العقل الجمعي، وتطلق العنان للعنف، ليأخذ الحيز الكامل في قيادة الرعية.
ما يحدث اليوم من عدم تقبل الآراء وإقصاء الأخر، هو تمزق للنسيج المجتمعي، وأنحلال للوحدة الوطنية، التي تسير بنا نحو دائرة اللئام، وتذهب بالأعراف والقوانين، ويتبخر فيها الخير، ويتحول كل شيء إلى غابة.. تنعدم فيها الأخلاق
يستطيع الأنسان أن يتعايش في أي مجتمع فيه بعض النقص الغذائي، الإقتصادي الترفيهي.. لكن تصبح الحياة شبه مستحيلة، في ظل أنعدام الوعي والقيم الأخلاقية..