
محمد جواد الميالي
أتذكر جيداً عندنا كنت طالباً في الإبتدائية، كانت معلمة التاريخ دائماً ما تمجد بحضارة العراق، حتى يبدأ طلاب الصف بتخيل أننا نعيش في المدينة الفاضلة، لكن ما أن يدق جرس الإستراحة، حتى نصحوا من أحلامنا، على واقعنا المظلم في زنزانة البعث المجرم.. وما يهون الخطب أننا كلنا داخل هذه الزنزانة (الوطن).
إنتهت حقبة الدكتاتور وبدأت التجربة الديمقراطية، ورغم عدم نضوجها إلا أنها لا تقارن مع نظام البعث الفاشي، ومع وجود الطائفية إلا أن الكل تيقن أننا كلنا شركاء في هذا الوطن، عربا أم كرد، مسلماً أو مسيحيا..
لايمكن لفئة أن تحدد مصير هذا الشعب، إلا بتوافق كل أطيافه، ولا يتحقق هذا الشي، سوى عن طريق الأصابع البنفسجية وصناديق الإقتراع، عندها الكل سيكون مشارك في تحديد مصير هذا الوطن.
أحتجاجات تشرين التي تزامنت أنطلاقاتها مع لبنان وتونس.. كان العامل الماكر فيها هو الإعلام، حيث في يوم 25 منه، كانت القنوات تصور للعالم أن العراق كله قد أنتفض ضد الفساد، لكن الغريب أنك عندما تخرج، تجد الأسواق تعج بالمتبضعين والشباب تملئ ساحات كرة القدم و أزدحام الشوارع لم يتغير، فالمركبات ما زالت تسير وتزداد..
هذا يعني أن هناك من خرج مندداً بالفساد، والبعض جلس يؤازرهم من بيتهِ "وهو أضعف الإيمان" لكن لنحدد الجمهور المتظاهر، حتى نحدد إن كانت عبارات "ماكو وطن ماكو دوام" وشعارات إقصاء الأحزاب الشيعية، تعبر عن كل العراق؟
أولاً مناطق شمال العراق.. الكرد لم يبرحوا مكانهم، ولم يتظاهروا نهائياً، والحياة تسير بكل انسيابية فيها، وهم جزءاً من هذا الوطن!
ثانياً جمهور المناطق السنية، الذي عبر عنه قادة السنة بأن موضوع التظاهرات لايعنيهم، بسبب الوضع الهادئ في مناطقهم، لذلك ما برحوا مناصبهم، بينما برر ساسة الغربية، أنهم لا يستطيعون التظاهر خوفاً من تغلغل داعش فيما بينهم!
ثالثاً جمهور المناطق الشيعية، الذي إنقسم محاور، أتضحت آخرها عندما نزل بعض من أتباع الفتح في تظاهرات حاشدة في بغداد، ضاعت بينهم المجاميع المتظاهرة في التحرير، ويصنف الجمهور الشيعي إلى:
أولاً المجموعة المسالمة، نصفها الأول لم يشارك في التظاهرات، والثاني ترك سوح الأحتجاج، بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها، كجريمة الوثبة الشنعاء..
ثانيا جمهور الأحزاب والتيارات الشيعية، الذي كسر حاجز الصمت عندما خرجت تظاهرات الفتح لتتظاهر، والذي أثبت أن قواعد الأحزاب الجماهيرية مازالت باقية على ولائها.
ثالثاً المتظاهرين الذي يمتزج فيهم المتحزبين، فالجمهور المحتج فيه العديد من أصحاب القبعات الزرق وولائهم معروف، وكذلك الشيوعيين والمدنيين، وثلةٌ قليلة جداً من المستقلين.
الحل الوحيد يكمن في أجراء إنتخابات مبكرة، وفق قانون عادل ونزية، ليحدد شعبنا مصيره، لكن ستكون المفاجئة صادمة للجميع، لأنه حسب المعطيات أعلاه فأن التغيير داخل قبة البرلمان الجديد، لن يكون بنسبة كبيرة، لأن غالبية الشعب لديه إنتمائات سياسية، والتغيير المنشود لن يحدث إلا بعد تجربة القانون الجديد، لأنه سيزيح أقنعة الفساد عن غالبية الأحزاب، وسيقتل إشاعة أن الحكم للشيعة فقط، فهم نصف شعب.. وربما أقل.
لا شك أن المشاركين في العملية السياسية بعد ٢٠٠٣ من الجانب الشيعي، كان لأغلبهم باع طويل في مقارعة النظام الدكتاتوري، لكن السؤال المهم إن لديهم خبرة في الجانب السياسي.. أم لا ؟!
رغم أنهم إجتمعوا تحت خيمة واحدة في إنتخابات ٢٠٠٥، لكن مكاسب السلطة كمغانم معركة أحد.. فتفرقوا أحزاباً عديدة، وغطائهم الوحيد كان الدين وجهادهم الماضي، فيما بعظهم أفتعل جهاداً حديث، لكي يدخل ضمن عباءة المجهادين، حتى وإن كان على حساب المواطنين العزل.
دهاليز السياسة أثبتت أن بعض ممثلي الشيعة بحثوا عن المغانم، وتحملوا كاهل فشل الحكومة وحدهم.. فقارب الفشل الذي كاد أن يغرق خلال ستة عشر عام، روج له الإعلام على أن ربانه قادة الشيعة فقط، رغم أن الكل كان شريكا في العملية السياسية وبالتفصيل..
أولاً الكرد كانوا يشتركون في كل حكومة ممثلين عن الإقليم فقط، ولا يهمهم حال العراق، حيث صرحت النائب الكردية بما معناه " القادة الكرد يصوتون لرئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، بعد الإتفاق على عدة شروط لصالح الإقليم، أهمها ميزانية الإقليم، وأن لا يمس النفط الذي يصدر من مناطق كردستان" وهذا دليل على أن أخوتنا في شمال الوطن، هم شركاء في قارب الفشل الذي غرق.
قادة القوى السنية من جهة أخرى, هم الذين لعبوا الدور الأكبر في معطيات تجربة الستة عشر عاما، حيث كانوا شركاء في كل شيء، قرارهم كان يدخل حتى في مصالح مدن الشيعة، وأكبر دليل على فشلهم، التظاهرات التي خرجت في عام 2014، وأستغلها الإرهاب الداعشي ليتوغل فيها، ويفتك بثلثي العراق لولا فتوى المرجعية، لكانت أجتاحت العراق أجمع.. بالإضافة إلى أنه رغم تظاهرات أكتوبر الحالية، نجد أن القوى السنية تحاول تمرير العديد من الصفقات داخل قبة البرلمان، مستغلين الضغط الجماهيري في مناطق بغداد والجنوب، وعذرهم أن مناطقهم لا توجد فيها أي أحتجاجات!؟
سفينة الفساد كان لها ثلاث قادة، هم الكرد، السنة والشيعة، وما خفي من أيادي التدخلات الخارجية كان أعظم.. لكن لماذا الشارع إنقاد خلف فكرة أن الشيعة سبب الخراب؟ وطالبوا بأستقالة عادل عبد المهدي، بينما تناسوا رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية؟ هل أن اللاوعي الجماهيري لدى الشيعة لا يتقبل أن تكون السلطة في أيديهم؟
ما يحدث اليوم هو صنيعة الإعلام.. الحرب الجديدة هي حرب صناعة الرأي العام، التي أستغلتها دول الجوار، حيث صنعوا بودقة إعلامية تحرك فيها الشارع العراقي، بينما فشلت فيها الأحزاب الإسلامية فشلاً ذريعاً، فقد خسرت العديد من الأموال في تمويل التواصل الإجتماعي، لتسقيط بعضها البعض، وتناست أنها كانت يجب أن تصنع عقلاً جمعياً يواكب الحدث، ويثبت أن لهم شركاء في العملية السياسية.
ما يواجه العراق اليوم ليست فقط معركة ضد أذرع المخربين داخل تظاهراتنا السلمية، وإنما المعركة الحقيقية تتمثل في الإعلام، الذي أنتحرت به آخر آمال القوى الشيعية، في أن تحافظ على قواعدها الجماهيرية.
الحل اليوم يكمن في الإسراع في إختيار رئيس الوزراء، وإعداد قانون إنتخابات جديد، لإجراء إنتخابات مبكرة، بعدها على قيادات الشيعة، أن تعلم أن ورقة الإعلام هي الرابحة.. والتي ستمكنهم أن ينتصروا بها ويستعيدوا ثقة جماهيرهم. الحرب العسكرية والإقتصادية، لم تعد هي الخيار الاول لمن يريد ان يحقق شيئا مؤثرا وغير مكلف، وحرب الماكينة الإعلامية وصناعة الرأي هي الخيار الأفضل..فمن يملك الإعلام سيكون هو الرابح الأكبر.
أحتجاجات أكتوبر التي أجتاحت مدن وقرى الشيعة في العراق، كانت تعبر عن مدى أستياء الشعب من سلطة الحكم، التي لم تنصف المواطنين، ولم توفر لهم أبسط الخدمات، سواء المجتمعية أو المعيشية.
كل أحتجاجات العالم تتأثر بمستوى تفوق ثقافة العرق البشري، من النخب الأعلى تأثيراً إلى الأدنى الاقل وعيا، ولكن مستوى الفعل واحد.. عندما يذوب الإثنان في نظرية العقل الجمعي.
أنطلقت سلمية جداً، بمطالب مشروعة، إيماناً بأن التظاهرات هي أهم سمات العملية الديمقراطية، فكان الهدف واحد، وطناً سالماً منعماً كما نردد في النشيد الوطني عندما نرفع العلم.. فكانت الأيام الأولى سلمية يحتذى بها، وكان العراق عالياً في عيون الجماهير المتظاهرة، والكل كان يترقب موقف الحكومة، لكن كلنا تفاجئنا بما يحصل داخل تظاهراتنا..
رقصٌ وغناء لا يتردد به حرف من الوطن، وشعارات لا تنتمي للسلمية بشيء، هدفها هدم الوطن لا بنائه، فبدأت مجموعة تنادي بإسقاط النظام، وأخرى تصرخ بإقتحام المؤسسات وحرقها، وصدى صوت كان يأمر بأرتداء اللثام وتغطية الوجوه، وبدأت تتصاعد هذه الهتافات، حتى خرجنا بعبارة "ماكو وطن ماكو دوام" كان هدفها ناصع السواد.. لا يرغب سوى بتجهيل طلابنا!
كان هناك صوت ينادي من بعيد "ألتزموا بسلميتكم فأنها تهلك الحكام" كان صوتا ناصع البياض.. لكن للأسف نحن لا نستمع لما تقول المرجعية!
يبقى السؤال المحير، كيف أنحرفت بوصلة الإحتجاجات، من السلمية إلى التخريب والحرق؟
كيف تحولنا من سلمية واعية إلى تخريبية قاتلة، حتى بدأت تتساقط اجساد شبابنا من الطرفين، الأمن والمتظاهرين؟ ثم بدأنا نتراشق التهم بيننا "مابين ذيل و أبناء السفارة" وبدأ البعض ينكل رجل الأمن، الذي كان قبل سنة من التظاهر هو سور الوطن، اليوم بدأنا بالهتاف ضده بأنه عاهة على الوطن!
أصبحنا في قوقعة جاهلة، تسمح للتلميذ بأن يهتف ضد معلمه، الذي كاد أن يكون رسولا..، والحرق لم يقتصر على إطارات قطع الطرق، فقد أنتشر حتى أجتاح التراث الأثري لشارع الرشيد في بغداد..
كل هذا الإنحراف حدث بسبب مجاميع ترتدي قناع الجوكر، توغلت داخل التظاهرات، تحركها أيادي خارجية هدفها هدم العراق، فعندما يسقط المربي الفاضل "المعلم" ونشكك بالقائد العالِمْ "المرجعية" أعلم حينها أننا نسير في الطريق الصحيح.. نحو الهاوية.
كل هذا تحقق حينما أمتزج العالم والجاهل، في بودقة العقل الجمعي، لأن سايكلوجيا الجماهير عندما تحقق تجمعا بهذا العدد، يصبح لهُ ما يسمى باللاوعي العنصري، وهو مايقود موج المواطنين من السلمية إلى العنف، فكلما علا صوت العنف أزداد اللاوعي.. والعكس صحيح.
لقد أصبحت الجماهير مسيرة لا مخيرة، تهتف لتهديم العراق لا بنائه، كل هذا يؤدي إلى مشروع مظلم يحاك في سفارات الخضراء، فمتى سنصحوا من التنويم الممول، لنبني عراق الغد الأجمل؟
أكثر ما يميز علم الإجتماع، عن باقي علوم المعرفة الحياتية، هو إتصاله المباشر مع الانسان.. ورغم صعوبة التنظير فيه إلا أنه حقق نجاحاً باهراً في التطبيق، وخاصة في بلدان العالم الثالث، أو مناطق الحرب بالوكالة.
الحربان العالميتان الأولى والثانية، أنهيتا مفهوم التدخل العسكري المباشر، وما يتبعها من التدمير الإقتصادي للبلدان المتنازع عليها، لأن علم السياسة قد سبب الخراب للبلدان المحتلة، وكان لابد من إيجاد طريقة، للسيطرة على الشعوب النامية بأقل تكلفة بشرية..
علم الإجتماع هو الباب الذي نشأت منه الحروب بالوكالة، ولكنها تعتمد على زعزعة المجتمع المراد السيطرة عليه..
لخلق الفوضى وتفكيك مجتمع، عليك أن تعرف نقاط قوته قبل ضعفه، لأنك لو دمرت قوة الشعوب، تستطيع حينها تسيرها بسهولة عن طريق العقل الجمعي، ومثال ذلك ما يحدث في العراق اليوم.. بشكل ما.
قوة العراق تتركز على مباني مهمة..
أولها المرجعية الدينية بقيادة السيد السيستاني، صمام الأمان الذي وقف بوجه كل مخططات النيل من العراق، وفند كل مشاريع أمريكا المحتلة.. ففي 2005 بكلمة واحدة أنقذ العراق من حرب كادت أن تفتك بأبناء الوطن..وفي 2007 قال "السنة أنفسنا" كلمتان أوقف بها الأقتتال الطائفي، وأوقف به مخطط بريمر لتقسيم العراق..
عاد في العام 2014 أطلق فتوى الجهاد الكفائي، وأسس الحشد الشعبي، الذي أخرج به العراق من فكي داعش الإرهابي "المدعوم بالأموال والأنتحاريين الخليجين، والقيادة الموسادية"..
الثاني الحشد الشعبي، وذلك لأن بلدنا يعج بالتدخلات الخارجية، التي حاولت إضعاف جيشنا، إستطاعت المرجعية أن تخلق قوة عسكرية بطابع عقائدي ووطني، لصد كافة فلول الإرهاب، وبفضل شهداء الحشد، إستطعنا المحافظة على أرضنا، التي حاولت القوى الخارجية أن تجعلها ساحة صراع طائفي.
الثالث العادات المجتمعية الرصينة الراسخة، حيث أن أهم ما يميز أبناء الوسط والجنوب، هو وجود الحكمة العشائرية، التي تتدخل دائماً لحل النزاعات المجتمعية، وتعتبر من أهم قوى مجتمعنا العراقي، لما لها من مواقف سامية في حفظ السلام المجتمعي.
إذا أتضح للعالم أجمع أن قوة العراق تتمثل بالمرجعية، حشدها، وكذلك شيوخ العشائر، لذلك أستغلوا تظاهرات العراق المطالبة بالإصلاحات، ليمرروا أفعالهم الدنيئة من أسفل طاولة المظاهرات..
القنوات التابعة لسفارة العم سام، وكذلك "الممول" على مواقع التواصل الإجتماعي، بدأ يشوه صورت السيستاني، وكذلك يتهم الحشد المقدس بالقتل "علماً أن العنف الحاصل، هو نتيجة مجموعات مندسة، تابعة للسفارات التي دعمت داعش" وكذلك يبين أن شيوخ العشائر هم سبب الخراب!
كل هذا يتم تسييره بالعقل الجمعي للمتظاهرين، وهدفه الوحيد ضرب نقاط قوة المجتمع العراقي.
المعطيات أعلاه أوضحت الهدف الفاسد للموساد والمال الخليجي في محاولة تدمير العراق، عن طريق كسر عصى المرجعية، ومايحدث اليوم من حرق وتخريب، مدسوس داخل التظاهرات.. ما هو إلا بداية تحويل العراق إلى ليبيا ثانية.. هل سيتحقق ما تطمح إليه دولة العم سام أم سيكون لإرادة أبناء المرجعية رأي آخر؟
أنطلقت في ٢٥ أكتوبر المنصرم، تظاهرات حاشدة في بغداد ومدن الجنوب، رافعين شعار السلم والسلام.. مطالبين بتوفير الخدمات والإصلاحات، وتطالب بإقتلاع رؤس الفساد، التي عاثت الخراب في البلد، تحت شعار "نازل أخذ حقي" .. ورغم أنها بدأت سلمية, لكن شابها العديد من حالات العنف.
الغريب أن مدن ومحافظات السنة، عرباً وكرداً، لم يبرحوا مكانهم ولم يتظاهروا، كأن على رؤسهم الطير و أن لا فساد عندهم! ..بل وكأنهم يعيشون في باريس وليس العراق.. لماذا يسودهم هذا الصمت، تجاه ما يثار في بلدنا من تظاهرات؟ هل عُمِرَتْ مناطقهم.. أم أستعادوا حقوق أراملهم وقتلاهم.. أو بالآحرى لا يريدون وطنا كالآخرين؟! كل هذا وأكثر يجعل الشك والحيرة يدبان في قلوبنا.. هل هناك شيئاً يخص مدن الشيعة؟ هل يريدون فتكاً بمحافظات الحشد والمرجعية؟
كلها تبقى تساؤلات لها وجهان من الإجابة، بين مؤيد للتظاهرات رافض لفكرة المؤامرة، بحجة أنها تنبع من مرض نفسي، وبين رافض لعنف الإحتجاجات مؤيد لفكرة المؤامرة، ودليله إختصاصها بمدن الجنوب فقط..
"نطالب بأسقاط النظام" هذه العبارة التي فاجأت الجميع، لما يتبعها من هرج ومرج لو تحققت و دخلنا حقاً في الفراغ الدستوري، الذي حاربه وبشدة رئيس الوزراء، وقال أنه مستعد للإستقالة لو كان هناك بديل.. وهي نقطة تحتسب له ولحنكته السياسية.. لو فهمها المدركون لبواطن الأمور.
إذاً وعلى طريقة علم الرياضيات، فإن المعطيات تؤكد أن مدن السنة والكرد موافقين على النظام البرلماني، لأنهم لم يشاركوا في الإحتجاجات، أو بالآحرى هذا ما صرح به قادتهم، وكذلك بعض الناشطين في مدنهم.. إذاً لا يمكن أن نذهب إلى إسقاط نظام دولتنا، الذي سيفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الخارجي والحرب الأهلية ربما..
المرجعية الدينية في النجف قالت في آخر خطبتها، يجب أن تكون هناك إصلاحات واقعية، وتحت سقف زمني محدد.. إذا الكل لا يقبل بإسقاط النظام، وإنما يطالب بإصلاحات حقيقية تغير حالنا إلى الأفضل.
التطور هنا يعتمد على ما ستفعله الحكومة، لتلبية مطالب المتظاهرين السلميين والمرجعية، تجاه حزمة الإصلاحات المناطة بسقف زمني وتطبيقها فوراً، لذلك كان لابد منهم التجرد ولو إعلامياً من أي تعنصر حزبي، والعمل من أجل إنقاذ الوضع الراهن، فكان إجتماع الجادرية هو مخاض لا يستهان به.. بحزمة إصلاحات عديدة، وصلاحيات كاملة لعادل عبد المهدي، بشرط أن يحقق كل الأهداف المشروعة بظرف خمسة وأربعين يوماً، و إلا فالإقالة والإنتخابات المبكرة هما الحل الوحيد المتبقي.
خمسة وأربعون يوما، ستكون هي الحد الفاصل والملاذ الأخير للمتشبثين بالسلطة، فأما تحقيق المطالب المشروعة للشعب المنتفض، والتي أهمها تعديل قانون الإنتخاب، الذي جعل السلطة عبارة عن ورث لبعض العوائل، وإصلاح منصة القضاء، التي لم تكن يوماً منصفه في محاسبة الفاسدين، وإعادة هيكلة مفوضية الإنتخابات، التي ما أن تنتهي أصوات الإقتراع، حتى تتراشق الإتهامات حولها.
ظلام الساسة بدأ ينجلي بهتافات المتظاهرين، وأياديهم التي طالما سرقت، بترتها لهم خطبة المرجعية.. ما بقيت من فتراتهم إلا أيام معدودات، فأما إصلاح شامل للنظام السياسي، أو لن يكون أمام الشعب سوى خيار خلعهم من منصات السلطة لأنه دائماً وأبداً، هو مصدر السلطات.
أكثر ما يمكن أن تلاقيه على رفوف المكتبات في "شارع المتنبي" ببغداد، أو "سوق الحويش" في النجف، هي كتب علم الإجتماع، لما لها من إتصال مباشر بحياة الجماهير..
في إحدى رسائل بريمر لزوجته، يقول "هذا الرجل الذي يسكن أحد أزقة النجف"السيستاني"، قد أفشل كل الخطط التي جئنا بها حول العراق، وأنه يسبب لي الكثير من الإحباط، رغم أنهم يدعوه بالصامت، إلا أنه قد هزمنا أشد هزيمة"
علم الإجتماع يثبت بما لايقبل الشك أن الفشل ينتج الحقد والكراهية، لذلك لايمكن أن نتصور قبول أمريكا وحلفائها، بالسكوت حول فشل خططهم بسبب مرجعية السيستاني.. فكان لابد لهم أن يزيحوه عن طريقهم واولى خطواتهم هي بأن يسقطوه في أعين العراقيين.
مخاض ستة عشر عاماً من التجربة الديمقراطية العرجاء، أثبت فيها الإعلام أنه أداة الربح والخسارة، حيث يمكنك أن تصنع من "عركجي" مثالا للمدنية والنزاهة.. وأن تجعل "العمامة" مثالا للسرقة والفشل.. لذلك كان لابد من أن تكون هناك قنوات، ومواقع تواصل أجتماعي، لكسر صمام أمان الوطن (المرجعية).
بدأ الممول على "السوشيل ميديا" يتصيد بالماء العكر، ويحاول أن ينشر كل ماهو مسيء وينسبه إلى العمامة، ودائما مايستخدم العطر الفرنسي والبدلة الأمريكية، لتلميع صورة السكير، ستة عشر عاماً أصبح في العراق صورة نمطية، وأخرى واقعية.
الصورة النمطية تضخمت في عقول الشعب، حتى أصبحت السبحة والعمامة هي سبب فشل كل المؤسسات الحكومية والإجتماعية في الدولة، وأن "السكير" هو الحل لعراق آخر ممكن!
"على الرغم من أن السياسة يشترك بها الكرد والسنة والشيعة، لكن بقيت فكرة تلوح في الأفق مفادها أن الشيعة سبب الخراب.. كل هذا لأننا نشاركهم السلطة، كأننا لسنا أبناء هذا الوطن، ولا يحق لنا أن نشاركهم به!
السؤال الأهم ماذا قدم السكير، وبماذا ضحت العمامة؟
خرج العراق من حرب أهلية، بفضل كلمة صدحت من النجف "السنة أنفسنا" ووئدت بها الطائفية.. أين كان السكير حينها؟!
فتوى واحدة أنقذت العراق من فك الإرهاب الداعشي، الذي تربى وترعرع في كنف العم سام، وأنطلق ليلاقي حتفة على يد العمامة في وطننا.. فأين كان السكير حينها؟
816 خطبة للجمعة، كانت تصدح بمكافحة الفساد، وعدم إختيار المجرب الفاسد والفاشل، ولكن كما قال المثل الشعبي "حب وأحجي وأكره وأحجي"
رغم كل ما فعلته المرجعية، ما زالت عرضة للتسقيط والتشويهة من قبل الأجندات الخارجية، بالأمس كانوا يقصفون مقرات الحشد الشعبي، ويحاولون هزيمتنا بكلبهم الأعور داعش، ويزرعون الشك في قلوب شعبنا تجاه مرجعيتنا الرشيدة، واليوم بيتهم الأسود يصرح من أجل إنقاذ العراق.. غريب كيف يدسون السم بالعسل!!
رغم ما فعلته "العمامة" من أجل العراق، إلا أن أبواق الفتنة أنطلقت بتسقيطها بعد أول يوم من إنطلاق التظاهرات، وقناتهم كانت مثالا للعهر والإنحطاط.
كلنا أستمعنا لخطبة المرجعية الأخيرة، التي طالبت بمحاكمة الفاسدين علناً أمام الشعب.. لم تطالب بأن يتم محاسبة صغار الأسماك، بل كانت تريد أن تحاسب حيتان فاسدة، بقضاء عادل ونزيه.. ولكن كل هذا الذي قدمته العمامة، سوف يصبح طيّ النسيان، وبعد أول عقبة تواجه العراق سوف ننادي.. أين المرجعية، لماذا تصمت هذه العمامة! ما فائدتها في العراق ؟!