التاريخ يعيد نفسه في كثير من الأحيان، وتظل علاقة الفنانين بالأنظمة السياسية مثالاً صارخاً على التبدل في المواقف، حيث تظهر بوضوح أوجه التشابه بين ما حدث في العراق قبل سقوط نظام صدام حسين وبعده، وما يحدث الآن في سوريا مع نظام بشار الأسد. هذه الظاهرة تلقي الضوء على الدور المعقد والمتشابك للفن والفنانين في سياق الدكتاتوريات والانقلابات السياسية.
قبل سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، كان العديد من الفنانين والمطربين العراقيين يشكلون جزءاً من آلة الدعاية للنظام. كانوا يظهرون على الشاشات ويحملون الأعلام، يمجدون الطاغية، ويغنون لأمجاده الوهمية. تلك المرحلة شهدت تسابقاً محموماً من أجل إرضاء السلطة، سواء بدافع الخوف من بطشها أو سعياً وراء مكاسب شخصية.
وبعد سقوط النظام، تغيّرت الصورة تماماً. ظهر أولئك الفنانون على الشاشات يتبرؤون من صدام حسين، مدعين أنهم كانوا “مجبرين” على الولاء له. القليل فقط اختار الحفاظ على مبدأه وفضل المنفى على أن يكون أداة بيد النظام. هذه التحولات تثير تساؤلات حول مصداقية الفنان ودوره في المجتمع: هل هو صوت الشعب أم أداة للسلطة؟ وهل يمكن تبرير هذه الانقلابات بأنها استجابة للظروف القهرية؟
في سوريا، تتكرر القصة ولكن بأسماء وأوجه جديدة. كان العديد من الممثلين والمطربين السوريين على مدار سنوات الأزمة السورية يقفون إلى جانب النظام، يمجدون بشار الأسد، وينشرون رواية السلطة. كانوا يظهرون في الاحتفالات والتجمعات الرسمية ويستخدمون فنهم لتمرير الرسائل السياسية التي تخدم النظام.
لكن مع تغيّر المشهد السياسي تدريجياً، بدأ بعض هؤلاء الممثلين بالظهور في الإعلام ليعلنوا معارضتهم للنظام، متذرعين بأنهم كانوا “مجبرين” على دعم بشار الأسد. يزعم هؤلاء أنهم كانوا يخشون على حياتهم وحياة عائلاتهم، وهي نفس الحجة التي استخدمها فنانو العراق بعد سقوط صدام.
لا شك أن العمل تحت نظام ديكتاتوري يضع الفنان أمام معضلة أخلاقية صعبة. بين الخوف من القمع وبين الحفاظ على شرف الكلمة والموقف، يتأرجح الكثيرون. في بعض الحالات، قد تكون الظروف القاهرة مبرراً لتصرفاتهم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين كان صوت هؤلاء عندما كانت الجرائم تُرتكب علانية؟ ولماذا صمتوا حتى بدأت الأنظمة تتهاوى؟
هذا التحول في المواقف يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة تعاني منها بعض الأوساط الفنية في العالم العربي، حيث يصبح الفن أداة للسلطة بدلاً من أن يكون مرآة لآلام الناس وآمالهم. الفن، كوسيلة للتعبير الحر، يفقد دوره الأساسي عندما يتحول إلى أداة تمجيد للأنظمة القمعية.
بينما قد يتفهم البعض ظروف الفنانين تحت حكم الدكتاتوريات، إلا أن التاريخ لا يرحم. الأجيال القادمة ستتذكر المواقف كما هي، دون تبريرات أو أعذار. ما بين الفنانين الذين صمدوا أمام الضغوط واختاروا المنفى أو الصمت كأضعف الإيمان، وبين أولئك الذين انقلبوا على مواقفهم بعد سقوط الأنظمة، يبقى الفن الحقيقي هو الذي ينبع من ضمير حي لا يخضع لإملاءات السلطة.
سواء في العراق أو سوريا أو أي بلد آخر، تظل العلاقة بين الفن والسياسة معقدة وملتبسة. الفنان الحقيقي هو الذي يقف مع شعبه في كل الظروف، ويكون صوتاً لمن لا صوت لهم. أما أولئك الذين يغيرون مواقفهم بتغير الأنظمة، فهم يساهمون في تكريس أزمة الثقة بين الجمهور والفن. ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن للفن أن يتعافى من هذه التبعية للسلطة ويعود ليكون صوتاً للحرية والكرامة؟