السياحة في جنوب العراق: سكان جنوب العراق.. يحافظون بيئيًا وإنسانيًا على سومرية الأهوار

أعاد قرار اليونسكو، بإدراج الأهوار والمناطق الأثرية العراقية على لائحة التراث العالمي، الروح لهذه المناطق التي كانت تضم الحياة البكر في تاريخ البشرية، فجذبت السياح من مختلف الجنسيات ليكونوا شهوداً على ما قدّمته البيئة العراقية من حضارة وتنوع بيئي وثقافة خالصة لم تدنسها الحداثة السائلة.
تعد مناطق الأهوار أكبر نظام بيئي من نوعه في الشرق الأوسط وغربي آسيا، وتبلغ مساحة هذا المستنقع المائي الشاسع نحو 16 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة دولة لبنان. وتمتد الأهوار بين ثلاث محافظات جنوبية هي ميسان، وذي قار، والبصرة. وهي جزء لا يتجزّأ من طرق عبور الطيور المهاجرة ما بين القارات، ودعم أنواع الحيوانات المهدّدة بالانقراض، واستمرارية مناطق صيد أسماك المياه العذبة، وكذلك النظام البيئي البحري في الخليج العربي. وفضلاً عن أهمّيتها البيئية، تعتبر مناطق الأهوار تراثاً إنسانياً لا نظير له، وقد كانت موطناً للسكّان الأصليين منذ آلاف السنين. وقد قدّر الباحث غافن يونغ عُمْرَ هذا المجتمع بخمسة آلاف سنة. وعدّت منطقة الأهوار حاضنة للكثير من المعارضين للأنظمة السياسية على امتداد تاريخ البلاد، وذلك لوجود متاهات عديدة تخفي مئات الأفراد، ومنها انطلق العديد من الثورات.
المعدان.. رجال التاريخ
لم تُعرف أقوام سكنت مناطق الأهوار بعد امتلائها بالمياه غير عرب الأهوار، أو بتسميتهم العراقية (المعدان)، ومفردها معيدي ويسمّون باللغة الإنكليزية (Marsh Arabs)، وهم مجموعة سكّانية عراقية موطنها الأصلي منطقة أهوار جنوب العراق.
يتميّز المعدان بتربيتهم الجاموس، واعتمادهم على صيد الأسماك كمصادر للرزق. كما يتميّزون ببناء صرائف من القصب ذات طراز معيّن تسمّى (المضيف)، فضلاً عن قوارب مصنوعة من القصب تساعدهم في صيد السمك تسمّى (المشحوف)، على الرغم من أنَّ الميزتين الأخيرتين يشترك فيهما المعدان مع فئات أخرى من سكّان جنوب العراق.
والمعدان في حركة دائمة، فهم كثيرو التنقّل طلباً لمتطلبات حياتهم ومتطلّبات حيواناتهم، وفي حقيقة الأمر فإنَّهم أشباه بدو في بيئة أهوارية، يتنقلون بحيواناتهم في أعماق الأهوار، أو إلى حافاتها، حسب الفصول والظروف الطبيعية. ولا يتعلّق سكنهم ببقعة جغرافية معيّنة، ويكون تنقّلهم على شكل مجموعات، تربطهم علاقة العشيرة الواحدة، ويقتصر بناء مساكنهم على الصرائف (جمع صريفة) والأكواخ الصغيرة، وهي أبسط أنواع المساكن وأكثرها شيوعاً في مناطق الأهوار قاطبة. وتشيّد الصرائف من حزمات من القصب يتناسب طولها وقصرها مع ارتفاعها، وتنشأ على شكل أقواس متتالية تربط من الأعلى، غير أنَّ هناك اختلافاً بسيطاً بين بناء الصرائف والأكواخ الصغيرة. وهذه الصرائف أو الأكواخ مقسّمة إلى قسمين، القسم الأول خاص للاستقبال، أمَّا القسم الثاني فهو مخصّص لأفراد العائلة، ويفصل ما بين القسمين أن يضع صاحب الكوخ ما لديه من حاجيات في وسطه، تفصل القسمين بعضهما عن بعض، ويسمّى القسم الخلفي (العمرة) أو (الربعة)، ويقيم صاحب الجاموس دائماً أمام كوخه حاجزين من القصب متقابلين، وبشكل مائل إلى الداخل، ملتصقين بالكوخ، ويكونان بمثابة (حظيرة) للحيوانات، وتسمّى هذه الحظيرة باسم (ستارة) لوقاية الحيوانات من برد الشتاء ورياحه الباردة، وتكون أمام الدار فسحة صغيرة تسمى (مشول)، حسب ما يصف الكاتب حيدر شامان الصافي، الذي يؤكّد أنَّ بناء سكن العائلة الواحدة وحظيرة حيواناتهم من هذا النوع لا يستغرق أكثر من يوم واحد.
ذي قار.. الحياة ابتداء
صرخ المنقّب والآثاري ناظم رشيد بوجه أحد سكّان الأهوار في ذي قار حين رأى وجه أحد السكّان: إنه أحد أجدادنا، للشبه الكبير بين ملامحه وملامح التماثيل السومرية، وأكّد أن سكّان الأهوار امتداد واضح للسومريين وكأنَّهم لم يغادروا هذه الأرض منذ أن سكنوا فيها.
هذا الامتداد الذي حاول المعدان المحافظة عليه بكل ما يستطيعون، بيئياً وإنسانياً، حتَّى أنَّهم يعيشون مثلما كان يعيش عليه السومريون الأوائل، بقي كما هو منذ أكثر من سبعة آلاف عام.
في هذا يتحدّث مدير منظمة طبيعة العراق الأستاذ جاسم الأسدي قائلاً إنَّ “أهوار جنوب العراق تمثّل واحدة من أهم الأراضي الرطبة في العالم، وأهوار الجبايش بالذات درّة هذه الأهوار، بيئة مائية تتميّز بوفرة التنوّع الأحيائي، قصب وبردي وطيور وزواحف وثدييات متنوّعة. مشاهد طبيعية أخّاذة، وجزر واستيطان بشري فريد، تقع المدينة التي انضمت إلى شبكة المدن الرطبة في العالم التابعة لليونسكو في قلب هذه الأهوار، حيث تطلُّ على هور الحمار الغربي من جهة، وعلى الأهوار الوسطى من جهة أخرى، مساحات خضر شاسعة، وقنوات وبحيرات مياه كثيرة، وجزر أثرية، وبيوت قصب صديقة للبيئة، ووجبات السمك المسگوف تحت ظلالها تخلب الألباب.”
ويصف الأسدي رحلات السياح في هذه المناطق: من شاطئ المدينة ونصب الشهيد فيها تنطلق جولات الزوارق التقليدية حتّى (إيشان حلاب) و(إيشان گبه) مروراً ببحيرة بغداد المسماة بـ(البرگة البغدادية) في قلب الأهوار الوسطى.
وقد تصاعدت حركة السياحة فيها بعد تسجيل الأهوار على لائحة التراث العالمي في المؤتمر الأربعين لليونسكو في السادس عشر من تموز عام 2016، كما ازداد اهتمام الصحافة العالمية بها كثيراً نتيجة تأثّرها بالجفاف خلال السنوات الأخيرة. تبلغ أعداد السياح بها بضعة آلاف أسبوعياً، وقد وصلت في 21 نيسان من عام 2020 إلى أكثر من 23000 شخص.
لكنَّ السياحة ذات حدّين، فهي ترفد الاقتصاديات المحلّية بدخل مستدام ومتنوّع من جهة، لكنَّها من جهة أخرى ذات تأثير سلبي حينما تتجاوز حدود السيطرة، كالعبث والصيد غير المسؤول للطيور، ورمي أكياس البلاستك والمخلّفات الضارّة، والتجاوز على التنوّع الأحيائي.
لذا فنحن نحتاج إلى السياحة البيئية المستدامة التي تتضمّن الاستمتاع بالمواقع الطبيعية والتراثية وعدم المساس بها والاعتداء عليها، وتوفير فرص التنمية للسكّان المحلّيين، ودمج المجتمع المحلي بأنشطة السياحة البيئية وجعله جزءاً من التخطيط والإدارة لها، والتقليل من الآثار الاجتماعية السلبية للسياحة على الثقافة المحلية قدر الإمكان.
ويشير الأسدي إلى أنَّ هناك ظاهرة برزت في السنوات القليلة الماضية على صعيد الجبايش، وهي السياحة البديلة، وهي ظاهرة مهمّة تضمّنت ظاهرة استضافة المجتمع المحلّي للسياح وتقديم الخدمات السياحية لهم في بيوت صغيرة من القصب ووحدات سكنية عائلية.
الحياة في ميشان
على الجانب الآخر من مدينة أور، في ذي قار وأهوارها، انطلقت مملكة ميشان بحضارتها، وأهوارها التي انتعشت لتمتد مع أهوار ذي قار والبصرة، لتشكل في مجملها بيئة لا تشبه أيّة بيئة أخرى.
في هذا الشأن، يؤكّد الخبير بشؤون الأهوار في محافظة ميسان الأستاذ أحمد صالح نعمة، أنَّ محافظة ميسان تتميّز بعدّة مواقع سياحية، منها التاريخية ومنها البيئية ومنها المعالم الفولكلورية، مثل منطقة الطيب السياحية كونها بادية كبيرة جدَّاً تمتدُّ بين الجانب الشرقي للحدود العراقية الإيرانية، وتضم ربوعاً خضراً، وفيها منطقة الفكّة التي تشبه إلى حدٍّ كبير معالم كردستان شمال العراق كونها نهاية سلسلة جبال حمرين، فضلاً عن نهري الطيب ودويج، ما يعطيها تنوعاً إحيائياً مهمّاً، وموطناً لحيوانات نادرة مثل غزال الريم النادر، والضب الأصفر البطن والظهر النادر، والدعلج، فضلاً عن الطيور المهاجرة مثل القطا الذي يأتي بأسراب كبيرة لهذا المكان.
ومن أهم المعالم البيئية في محافظة ميسان هور الحويزة، أو الأهوار الشرقية، والأهوار الوسطى، وتضمُّ الأهوار الشرقية هور العظيم والسودة وذيل الفحل وأبو عذبة وبركة أم النعاج، وهو من أهم الأهوار، إذ أدرج على لائحة التراث العالمي، وسمّي بأمِّ النعاج لكثرة ورود طائر البجع في الشتاء، وهو طائر (البليكان) الذي يسمّى محلّياً (نعجة الماء)، ويضم أيضاً تنوّعاً بيولوجياً كبيراً، مثل الخنزير البري والوشق والقط الأحمر وكلب الماء ماكسويل الذي سمي نسبة إلى العالم الإسكتلندي كيفن ماكسويل.
الهور كبير، إذ تزيد مساحته على 2250 كيلو متراً مربعاً بجانبيه العراقي والإيراني، فهو مشترك بين هذين البلدين، تتشكّل في أطرافه جزر كبيرة من القصب، التي تسمّى (الجباشة)، وأحياناً يطلق عليها الاسم القديم (التَهَلة)، وتجمع بالجبايش، ومنها أخذت منطقة الجبايش في ذي قار هذا الاسم.
أمَّا الأهوار الوسطى فتضم الصحّين والصيكر والعودة والبطاط والمفصل، كما تضم هور السناف، وهو فيضي موسمي.
يضيف نعمة: بعيداً عن هذه الأهوار، تمتلك محافظة العمارة ستّة أنهار، أولها نهر دجلة، وخمسة أنهار تتفرّع منه، وهي البتيرة والمجر الكبير والمجر الصغير والمشرّح والكحلاء، وهذه الأنهار تحيطها بساتين على ضفتيها ما يعطي تنوّعاً بيئياً مهماً لجنوب العراق.
مجلة الشبكة العراقية