العراق – سجن التاريخ والمقدّس الضائع — قراءة فلسفية في ضوء أطروحات علي الوردي

العراق – سجن التاريخ والمقدّس الضائع — قراءة فلسفية في ضوء أطروحات علي الوردي

محمد سعد حمادي

العراق، تلك الأرض التي تشكّلت فيها أولى المدن، وأُريق فيها أول دم باسم الآلهة والعرش والأنساب، هو في حقيقة الأمر أكبر سجن مفتوح في التاريخ البشري. لم يكن يومًا وطنًا للإنسان بقدر ما كان ساحة للصراعات المقدّسة، للحاكم الذي يحمل سيف الشريعة، وللشيخ الذي يبيع الجنة بالنفوذ، وللزعيم القبلي الذي يقدّس الدم والأنساب.

لقد كنت أراقب العراق لا بوصفه جغرافيا سياسية، بل باعتباره مرآة مكبّرة للشرق الأوسط كلّه. العراق ليس مجرد بلد؛ بل هو تجسيد للوجدان الشرقي المأسور، المتأرجح بين الحكاية والأسطورة، بين الطاعة والثورة الموءودة.

ولو أردنا أن نُمسك بطرف هذا الخيط الطويل، فلا بدّ أن نعود إلى مفكرٍ نادر في مجتمعه، هو الدكتور علي الوردي. إنه ليس فيلسوفًا تقليديًا، ولا مفكرًا يخوض معارك السياسة اليومية، بل رجلٌ قرأ تربة بلاده كما يقرأ عالم الاجتماع طبقات الأرض: كل طبقة تحمل رماد حرب، وآثار وثن، وأشلاء قطيع.

لقد كتب الوردي عن «ازدواجية الشخصية العراقية» وهي ليست إلا انعكاسًا للمجتمع الذي قُسِمَ قهرًا بين ما تفرضه السلطة من طاعة، وما تنبعث منه الرغبة الداخلية بالتمرّد. شخصيةٌ تمضي من مجلس الوعظ إلى حانة الخمر، ومن الدعوة للعدل إلى تمجيد الطاغية.

لكني أقول إن هذه الازدواجية لم تنشأ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لسيادة “السلطة القُدسية” منذ فجر التاريخ الرافديني. فمنذ حمورابي الذي وضع قوانين إلهية، مرورًا بالخلفاء الذين مزجوا السيف بالنصّ، وصولًا إلى الملوك والدكتاتوريين في العصر الحديث، لم يُسمح للعراقي أن يكون “فردًا”، بل ظلّ “رعية”.

إنّ ما كتبه علي الوردي عن العشيرة والدين والسياسة في العراق، هو أقرب إلى صرخة في الفراغ. فالوردي أدرك مبكرًا أن النظام الاجتماعي القائم ليس سوى آلية متقنة لإعادة إنتاج الطاعة. لم يتواطأ مع المؤسسة الدينية ولا مع الدولة القومية ولا مع العشيرة. لكنه في المقابل، بقي حبيسًا لمنطق الدولة الحديثة، ولم يصل إلى نقد أصل فكرة الدولة نفسها كآلية للاستعباد، كما حاولت أنا أن أفعل في دراستي حول الدولة والسلطة والمجتمع الطبيعي.

العراق إذًا، في رأيي، نموذج صارخ لمجتمعٍ لم يتحرر من عقدة الدولة-المقدّس. فالطائفية، التي يظن البعض أنها ولدت مع الاحتلال أو الدكتاتوريات الحديثة، هي في الحقيقة أداة قديمة لضبط الشعوب. الكردي والشيعي والسني والمسيحي واليزيدي؛ جميعهم أسرى بنية اجتماعية بنيت على إقصاء الإنسان الفرد، وتمجيد الهوية الجمعية المتخيلة.

إن الحلّ لا يكمن في تغيير الحكام ولا تبديل الأعلام، بل في تغيير مفهوم المجتمع نفسه. لا بدّ من تحطيم صنم الدولة القومية، والعودة إلى مجتمع الأمة الديمقراطية، حيث تُبنى المجتمعات على أساس الإدارة الذاتية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة الجندرية، والتحرر من السلطة الدينية والقبلية.

العراق يحتاج إلى قراءة جديدة لعلي الوردي، ليس باعتباره ناقدًا للشخصية العراقية فقط، بل كمشروع مقاومة فكرية للسلطة المستترة. ولو كان الوردي حيًا اليوم، لقلت له:
«لقد أشرت إلى المرض، لكننا اليوم في حاجة إلى أن نقتلع جذر السلطة من وعي الناس قبل جدران القصور».

العراق لا يحتاج إلى دستور جديد ولا إلى انتخابات مزيفة، بل إلى ثورة ذهنية، تنتقل بالإنسان من خانة “الرعية” إلى “المواطن الحر”، من خانة “المؤمن الطائع” إلى “العاقل المسؤول”، ومن خانة “القبلي” إلى “الإنساني”.

إنني أرى العراق يشبه كائنًا يحمل ذاكرة مثقلة بالدماء والقيود، يحتاج إلى أن يغسل تاريخه بنهر من الفكر الثوري، لا من الخطب الدينية ولا من صفقات الساسة.

لذلك، أدعو المثقفين العراقيين، من بقايا الوردي إلى شباب الساحات، أن يعيدوا تعريف العراق لا كـ”دولة قومية” بل كـ”مجتمع أمم”، تتحرر فيه الأديان من الكهنة، والأعراق من الزعماء، والمرأة من سلطة الذكر، والفرد من طغيان الدولة.

عندها فقط، سيصبح العراق — الذي كان سجنًا للإنسان — وطنًا للإنسان.

اترك رد