في ساحة كلية الهندسة بجامعة ذي قار، لا يُسمع سوى صفير الريح وهي تمرّ بين مكائن ضخمة تآكلها الصدأ. هنا، وسط الحديد الملقى ودفاتر المناهج القديمة، تختبئ حكاية موجعة عن إهمالٍ طال صرحاً يفترض أن يصنع مهندسين… لا متفرجين. أجهزة هندسية حديثة كلفت خزينة الدولة ملايين الدنانير، كانت يومًا رمزًا لتطور التعليم الهندسي في الجنوب، لكنها اليوم تتآكل تحت شمس الناصرية الحارقة، شاهدةً على هدرٍ لم يُحاسب عليه أحد.
جولة ميدانية تكشف حجم الكارثةخلال جولة ميدانية أجراها فريق وكالة سومريون الإعلامية داخل قسم الميكانيك، بدا المشهد صادماً: مكائن متروكة منذ سنوات، مختبرات مغلقة بأقفال صدئة، وأجهزة خراطة غطاها الغبار وكأنها أُهملت عمدًا للنسيان.
يقول أحد طلبة الدراسات العليا، وهو يحدّق بحسرة نحو المعدات المتآكلة: “نتعلم الميكانيك بالنظر فقط. لا تدريب، لا تطبيق. بعضنا لم يلمس محركًا واحدًا منذ دخل الكلية.”
مشاهدات وشهاداتالمواطن حيدر، الذي صادف المشهد أثناء مراجعته رئاسة الجامعة، تحدث بغضب قائلاً: “رأيت معدات ومكائن طباعة واستنساخ مرمية في العراء ومتآكلة من حرارة الشمس. تساءلت: لماذا لم تُباع في مزاد للاستفادة من قيمتها بدل أن تُترك للتلف؟”رأي الطلبة: تعليم بلا تطبيقعدد من الطلبة أكدوا أن الدراسة تقتصر على الجانب النظري فقط دون أي ممارسة عملية حقيقية. “ندرس أجزاء المحركات على الورق فقط، لا نعرف حتى كيف تعمل فعليًا!”
وأضاف آخر: “الورش محدودة جدًا وبعضها داخل كرفانات متهالكة. بهذه الظروف لا يمكن أن نخرج مهندسين أكفاء.”
الخلل بين الإدارة والقانونيرى الطلبة والعاملون أن السبب الرئيسي وراء هذا الإهمال هو غياب الخطط الإدارية لصيانة الأجهزة أو استثمارها بالشكل الأمثل، رغم كونها من ممتلكات الدولة الباهظة. ووفق قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 المعدل، يجب التصرف بالأجهزة غير الصالحة بالبيع أو الاستبدال وفق ضوابط محددة. لكن الواقع يقول إن النص القانوني بقي حبرًا على ورق، فيما تحوّل الهدر إلى ظاهرة اعتيادية.
رأي الخبراءيؤكد مختصون في التعليم العالي أن ما يجري في كلية الهندسة ليس حالة فردية بل نموذج متكرر في المؤسسات الأكاديمية: “الهدر في الجامعات لا يقتصر على المعدات، بل يشمل غياب التخطيط والرقابة. الأموال تُصرف دون متابعة، ما يضعف التعليم العملي ويؤثر على كفاءة الخريجين، وهو ما ينعكس سلبًا على سوق العمل والاقتصاد الوطني.”
الخلاصةما يحدث في كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة ذي قار ليس مجرد إهمالٍ عابر، بل مرآة لانهيار التعليم العملي في العراق. أجهزة استوردت لتطوير الكفاءات تُركت لتصدأ، في مشهد يختصر مأساة الفساد واللامبالاة.
ويبقى السؤال: هل ستتحرك الجهات الرقابية لإنقاذ ما تبقّى؟ أم سيُضاف هذا الملف إلى أرشيفٍ طويل من القضايا التي التهمها الإهمال… والصدأ؟