استطاعت التكنلوجيا الحديثة أن تطرق جميع أبواب الحياة، وعلى الرغم من تحقيقها نجاحات كبرى في عالم البرمجيات، إلا أن لتلك التكنلوجيا وجهاً آخر في عالم الفن، وفي مجال الغناء تحديداً. اليوم يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل محل المؤلف والملحن والمطرب، إذ إنه يكتب الأغاني، ويستطيع أن يلحنها ويختار الصوت الذي يجسدها.
ربما سيتبادر إلى الذهن أننا سنستمع إلى أغان جديدة لمطربين راحلين بأسلوب جديد، فربما سوف نستمع إلى محمد القبانجي وهو يؤدي أطواراً ريفية، أو نستمع إلى داخل حسن وهو يؤدي المقام العراقي، في عملية إلكترونية بحته خالية من الإحساس. العملية الإبداعية عموماً، والغناء خصوصاً، يعتمدان بالدرجة الأولى على إحساس ثالوث الأغنية: الكاتب والملحن والمطرب، وبدون ذلك، حتى لو توفرت العناصر الإبداعية، لكن العمل الفني يبقى باهتاً دون إحساس، ولا يؤثر في المتلقي. الكثير من المطربين قاموا بإعادة أغاني مطربين آخرين، لكنهم لم يحققوا النجاح المنشود، حتى وإن كانت جميع التقنيات متوفرة، لكنها لا تمتلك إحساس المطرب الأول، وهكذا يبقى السؤال قائماً: هل نحن أمام هجمة جديدة تدمر ما تبقى من تراثنا الموسيقى؟
أصل الحكاية
بدأت الحكاية حين قام الملحن المصري عمرو مصطفى بتأليف وتلحين أغنية جديدة عنوانها (افتكر لك إيه). جرى تركيبها على صوت أم كلثوم عن طريق الذكاء الاصطناعي، الذي لامس بعض الأحيان طبقات صوت أم كلثوم، لكن عشاق صوت أم كلثوم أعلنوا رفضهم هذا الأمر، معتبرين أن ما فعله عمرو مصطفى هو مسخ صوت أم كلثوم، الذي ظهر بدون إحساس،
لتشتعل فيما بعد معركة إعلامية بين المنتج محسن جابر، صاحب حقوق الأداء العلني لأغاني أم كلثوم، والمُلحن عمرو مصطفي، لقيام الأخير باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في استنساخ صوت أم كلثوم، واتهم جابر الملحن مصطفى بتشويه التراث الغنائي، والاعتداء على حقوقه القانونية، وتبادل الطرفان الهجوم والتلويح بالمقاضاة. المفاجأة الأخرى كانت حين بدأ رواد مواقع التواصل الاجتماعي بتداول فيديو لأغنية تجمع الفنانين كاظم الساهر وعمرو دياب معاً، والأغنية على طريقة (الديو) بين الثنائي، بعنوان (شؤون صغيرة)، وهي قصيدة طرحها الشاعر نزار قباني منذ سنوات طويلة وغناها الساهر. ردود أفعال الجمهور جاءت متباينة، بعضهم اعتبر الأمر شيئاً مميزاً، وبعض آخر اعتبر أن ما يحدث هو تعد على حقوق المطربين بجعلهما يشاركان في ديتو غنائي دون علمهما.
غناء بلا إحساس
إن كل أغنية عظيمة لامست وجدان المستمعين تقف خلفها حكاية ما، أو موقف معين كان لأحد ثالوث الأغنية: المطرب والكاتب والملحن، فضلاً عن الجلسات التحضيرية التي من الممكن أن تمتد إلى فترة طويلة، التي كانت النواة الأساسية لعمل فني رسخ في الذاكرة مهما تعدت السنين، أعمال خالدة لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وداخل حسن وحضيري أبو عزيز وغيرهم من نجوم الغناء العربي والعراقي، أعمال خالدة لطالب القره غولي مثل أغنية (البنفسج)، وأغنية (للريل وحمد) لمحمد جواد أموري، اللتين أبدع في غنائهما ياس خضر، وما صاحبهما من مخاض عسير عاشه الكاتب والملحن لتخرج تلك التحفتان إلى الجمهور. كل هؤلاء المطربين والملحنين والكتّاب كانت لهم صفات شخصية تضاف إلى موهبتهم في الغناء، هذه الصفات تكمن في إدراكهم الكامل لمعنى الكلمة وكيفية تأثيرها على المتلقي، وكذلك اختيار الجملة اللحنية المناسبة. ربما لو كان بعضهم على قيد الحياة لرفضوا مثل هكذا نوع من الغناء، لعدم انسجامه مع طريقة تفكيرهم وأسلوبهم في الغناء، ولربما اعتبروا أن هذا الأمر اعتداء صارخ عليهم وعلى موهبتهم، فضلاً عن أن مثل تلك الأغاني المصنوعة عن طريق الذكاء الاصطناعي، سيستمع إليها جيل جديد لم يعاصر تلك الأسماء فيظن أنها أغنياتهم الأصلية، فيصدر حكمه عليهم بأن هؤلاء لم يكونوا موهوبين أو يستحقون لقب أساطير، وهذا ما حدث سابقاً حين أعيد تسجيل الأغاني التراثية بأصوات شبابية، حتى انبرى احدهم باتهام الفنان ناظم الغزالي بسرقة أغنية (أم العيون السود) من الفنان هيثم يوسف!
لذا فإن على جميع من يهمهم الأمر من مؤسسات فنية ونقابية أن ينتبهوا لخطورة ما يجري، لكيلا نعتبر الأمر مجرد خداع إلكتروني يقدم بنوايا حسنة، كذلك علينا أن نضع ضوابط وأسساً لاستخدام التراث وحماية رموز الفن من التشويه، والتحذير من خطورة هذا الأمر في مجال الفن، وإلا سيسرق تراثنا مرة أخرى وتستبيحه (زومبيات) الذكاء الاصطناعي هذه المرة.
Our website uses cookies to provide you the best experience. However, by continuing to use our website, you agree to our use of cookies. For more information, read our Cookie Policy.