حين نفتش في ذاكرتنا ونهرب إلى زاوية لاذت بالصمت، ستصرخ بنا أسماء ومواقف وذكريات، أجيال كانت توائم للإبداع، لجأت إلى الصمت كما ذاكرتنا، أسماء نابضة بالحياة، حلّقت في سماء الفن العراقي، وشيدت ركائز المسرح، ذابت في التعابير الإنسانية وأسست لفضاء المشهد الفني.
حمودي الحارثي (عبوسي) رحل دون ضجيج، وهو يصارع المرض في زمن لا عزاء فيه ولا جنازة، بين جدران غرفته، حيث تشخص عينا ذلك النجم إلى تاريخ فني كتبت حروفه بالتواضع وحب المهنة، رحل وهو يصارع المرض، ومع كل شهيق وزفير، تظهر أمام عينيه أعماله الفنية. رحل وترك خلفه محبيه الذين رسخ في ذاكرتهم كفنان وإنسان. وصفه الفنانون بانه الأستاذ والمحب الطيب والمسامح والأخ الكبير، وفي رقدته الأخيرة قالوا «الله وياك عبوسي، نم قرير العين واستقبلنا نحن القادمين بابتسامتك المعهودة.»
النحت والتمثيل
في جانب الكرخ من بغداد، في محلة باب السيف، ولد حمودي الحارثي في العام 1936، وفي السادسة من عمره تعلم النجارة وارثاً المهنة عن أبيه الذي كان يلقب بـ (نجار الأئمة)، تعلم النحت على الخشب، وكان من المميزين في ذلك الفن، لكنه لم يلبث في تلك المهنة طويلاً، إذ دخل معهد الفنون الجميلة برفقة الفنان جواد سليم والفنان فائق حسن في العام 1958، هناك ترك الحارثي قسم النحت والرسم وتفرغ للتمثيل والإخراج، ومن ثم درس الفن والإخراج السينمائي لمدة عامين في فرنسا (1964-1965)، ثم درس الفن والتمثيل السينمائي بين الأعوام (1974-1981)، وهو عضو جمعية التشكيليين العراقيين.
عبوسي المشاكس
في مطلع ستينيات القرن الماضي، دخل حمودي إلى التلفزيون ليسجل أولى حلقاته من المسلسل الكوميدي (تحت موس الحلاق)، الذي اشتهر من خلاله بشخصية (عبوسي- صانع الحلاق المشاكس) كنجم كوميدي، حينها شكل ثنائياً رائعاً مع الفنان سليم البصري، الذي كان يقوم بدور الحلاق (الحجي راضي). ذلك المسلسل الذي مازال العراقيون يختزلونه في ذاكرتهم. شارك في أكثر من 500 عمل إذاعي وتلفزيوني، لعل أهمها: (حياة العظماء)، (مع الخالدين)، (كاريكاتير)، (إلى من يهمه الامر)، وأخرج الكثير من البرامج التلفزيونية، منها (العلم للجميع)، للأستاذ كامل الدباغ، و(الرياضة في أسبوع) للأستاذ مؤيد البدري. كان الحارثي من مؤسسي فرقة 14 تموز عام 1958 / 1959مع الفنانين الكبار وجيه عبد الغني وعزيز شلال عزيز وأسعد عبد الرزاق، كما أسهم في تأسيس الفرقة القومية للتمثيل برئاسة حقي الشبلي عام 1967، كذلك أسهم مع المفكر والكاتب محمد مبارك بتأسيس قسم البرامج الثقافية، ثم مع المخرج حسين علوان بتأسيس قسم برامج الأطفال مع نخبة من الأكاديميين بإعداد دورات تدريبية لمقدمات برامج الاطفال .
رحلة الفن
بعد مسلسل (تحت موس الحلاق)، قرر أن يكمل دراسته العليا، فحصل في منتصف الستينيات على شهادة الماجستير في الإخراج التلفزيوني من القاهرة، ثم الدكتوراه في الإخراج والإنتاج من فرنسا، ليكون أول مخرج تلفزيوني وإذاعي يحصل على هذه الشهادة. عاد بعدها إلى العراق ليعمل مخرجاً في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، حيث أخرج العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية، كالبرنامجين الشهيرين (الرياضة في أسبوع) و(عدسة الفن). شارك رفيق دربه (سليم البصري) بطولة الفيلم السينمائي (العربة والحصان) للمخرج محمد منير فنري. وبعد وفاة البصري قرر الحارثي ترك الوطن والسفر إلى الأردن ليهاجر بعدها إلى هولندا ليقيم فيها بشكل دائمي. أقام في المهجر أكثر من (15) معرضاً للنحت داخل المدن الهولندية.
يذكر أن (الحارثي) توفي عن عمر ناهز الـ88 عاماً في أحد مستشفيات هولندا، إثر مرض عضال، وعيون العراقيين تودعه، ونعته نقابة الفنانين والوسطين الفني والثقافي. وسيعود جثمانه إلى العراق بتوجيه من رئيس مجلس الوزراء، ليوارى الثرى في بلده الذي أحبه.
Our website uses cookies to provide you the best experience. However, by continuing to use our website, you agree to our use of cookies. For more information, read our Cookie Policy.